سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام ، في تحليل الوحي ، مسلكاً خاصّاً لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة ، وتبتني نظريتهم على أُصول لا مجال لذكرها هنا ، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور :
الأول : قد أثبتوا بفضل قاعدة الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد (١) ، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد وهو العقل الأول ، ثم أفاض الوجود ، فأوجد العقل الثاني ، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أنِ انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر ، وهو المسمى عندهم بالعقل الفعّال . وليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة ، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها (٢) .
__________________
= ذلك مجموعة تقرأ لا لتقدس تقديساً ، ولكن ليعرف الباحثون منها الصور الذهنية التي كان يستعبد لها الإنسان نفسه ، ويقف على صيانتها جهوده ، غير مدّخر في سبيلها روحه وماله .
وقد اتّصل الشرق الإسلامي بالغرب منذ أكثر من مائة سنة ، فأخذ يرتشف من مناهله العلمية ، ويقتبس من مدنيته المادية ، فوقف فيما وقف على هذه « الميتولوجيا » ، ووجد دينه ماثلاً فيها ، فلم ينبث بكلمة ، لأنّه يرى الأمر أكبر من أن يحاوله ، ولكنه استبطن الإلحاد ، متيقناً أنّه مصير إخوانه كافة متى وصلوا إلى درجته العلمية .
وقد نبغ في البلاد الإسلامية كتّاب وشعراء وقفوا على هذه البحوث العلمية ، فسحرتهم ، فأخذوا يهيئون الأذهان لقبولها ، دساً في مقالاتهم وقصائدهم ، غير مصارحين بها غير أمثالهم ، تفاديا من أن يقاطعوا أو ينفوا من الأرض » .
لاحظ موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين ، ج ١ ، ص ٢٤ . وفي الكتاب نصوص من مشاهير أساتذة مصر حول معجزات الأنبياء وخوارق العادات ، وكأنّهم كانوا منكرين لها ، محاولين توجيهها وتأويلها على نحو يلائم روح العصر بزعمهم . ونحن لا نذكر هنا أسماء أولئك الأساتذة الذين اتّهمهم صبري بالشذوذ عن الكتاب والسّنة ، ولكن نوصي طلاب الحقيقة بمطالعة هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة حتى يقفوا على كيفية زعزعة العلم الحديث لأركان الأزهر الشريف ، والضجة الكبيرة التي أوجدها في مفكريه حول الغيب والمعاجز والوحي والملائكة والجن ، وكل ما لا يصل إليه الإنسان بأدوات المعرفة المادية !! .
(١) المراد قاعدة : « لا يصدر من الواحد إلّا الواحد » ، وعكسها : « لا يصدر الواحد ، إلّا من الواحد » . وقد برهنوا عليها ببرهان فلسفي ، لا ينافي صدور ما في الكون جليله ودقيقه من الله سبحانه على نحو ترتب الأسباب والمسببات .
(٢) لأنّ طريق الاستكشاف هو الأفلاك التسعة المحسوسة الكاشفة عن النفوس التسع والعقول العشرة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محله .