هذه التحليلات والبيانات الثلاثة التي ذكرناها في حقيقة العصمة ، نظريةٌ واحدةٌ ، تُعْرِبُ بمجموعها عن أَنَّ العصمةَ قُوّةٌ في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الرّب سبحانه وتعالى ، وهي معجونةٌ في ذات الإنسان الكامل وهُوِيَّتَهُ الخارجية .
نعم ، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة بأحد معانيها ، وهو المصونية عن المعصية والتمرّد على أوامر المولى ، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً ، والتَّحَفُّظ عليه ثانياً ، وإِبلاغه إلى الناس ثالثاً ، والعصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والإجتماعية ، فلا بدّ لها من عامل آخر ، نتعرض له في الأبحاث الآتية ، بإذنه تعالى .
* * *
إنّ الكتب الكلامية ، قديمها وحديثها مشحونة بالبحث عن العصمة ، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين ، ومن يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية .
لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم المبدعين لهذه الفكرة ، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب وأفظع المعاصي وهذا العهد القديم يسجّل لداود وسليمان وقبلهما يعقوب ، ما يندى له الجبين ويخجل القلم عن نقله (١) ، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام ، هم المبدعون لهذه الفكرة .
ولا شك أيضاً في أنّ علماء النصارى ليسوا هم كذلك ، فإنّهم وإن كانوا ينزهون المسيح عن كلِّ عيب وشين ، إلّا أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريٌّ أُرْسل لتعليم الإنسان وإرشاده ، بل بما هو « إلهٌ متجسِّد » ، أو « ثالثُ ثلاثةٍ » .
وبعد هذا فاعلم ، أنّ بعض المستشرقين من رماة القول على عواهنه ، لَمّا
__________________
(١) سنتعرض لذلك مفصّلا عند البحث في الشاهد الرابع من شواهد إعجاز القرآن ، وهو هيمنته على الكتب السماوية ، من مباحث النبوة الخاصّة .