المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز بالكلية ينتهي إلى الفناء ، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة . فالطريق الأوسط ، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإِنسان الفرد أولاً ، وصالح المجتمع ككلّ ثانيا .
ومن هذا يتبين أن من يريد أن يقنِّن لصالح المجتمع ، يجب أن يكون عارفا بالإِنسان عرفاناً كاملاً ، واقفاً على زوايا روحه وأعماق ضميره وخصوصيات بدنه وطاقاته ، وما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد .
وهذا الشرط بديهي ، فإن المقنن إذا كان منتفعاً من القانون الذي يضعه ، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة ، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ومثل هذا القانون ناكب عن الحق ، متردّ في مهاوي التفرقة والتمييز ، ونتيجته الحتمية الظلم والإجحاف .
فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا كان واضعُهُ مجرّداً عن حب الذات وهوى الإِنتفاع الشخصي .
إن للعقيدة دورها وأثرها في اختيار الفعل وانتخابه ، وكلُّ ما يصدر من الإنسان من فعلٍ أو تركٍ فهو وليد عقيدته وتفكيره ، فالمؤمن بالله وشرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربَّه ، كما أنّ الملحد والكافر به وبشرائعه يسعى إلى الأعمال التي فيها رضى غرائزه ومتطلبات نفسه .
والقانون مهما بلغ في درجات التكامل ، لا يكون ناجحاً ومفيداً إلا إذا كان في جوهره وصميم ذاته ، ضمانات لأجرائه وتجسيده في الحياة .
وبضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنِّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر ، ولا يكون نظره محصوراً بوضع الضوابط الماديَّة الجافّة .