الناس ، مقدّماً الأعزّ فالعزيز . فما هو الوجه في هذا التقديم والتأخير ؟ .
الجواب : إنّ الآية الأُولى تُصَوّر مشهد الفرار من العذاب والبلاء ، والآية الثانية تمثّل مشهد دفع العذاب عن النفس .
ففي المقام الأول يتخلّى الإنسان عن العزيز فالأَعزّ ، حتى لا يبقى معه شيء يمكنه أن ينخلع عنه لينجو بنفسه . فلأجل ذلك بدأ في الآية الأُولى بالأخ ، فالأُم ، فالأَب ، فالصاحبة ، فالبنين .
وأمّا في المقام الثاني ، فالإنسان فيه في حالة الإفتداء من العذاب الشديد الرهيب ، ففي هذا الحال يفدي بعض جوارحه ببعض ليدفع عنه لهيب جهنم . فإن لم ينجع ، يتناول للوقاية أقرب شيء وأحبّه إليه لعلّه ينجو ، وهم البنون ، فالصاحبة ، فالأخ .
فصار الموقفان مختلفين متباينين ، فالحالة الأُولى تمثّل حركة فرار ، والثانية تمثّل حركة دفاع من خطر داهم . وهذه النكتة ، أوجبت اختلاف النظم بين الآيتين ، وعليها جرى قول الشاعر :
ألقى الصحيفةَ كي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ |
والزادَ حتى نَعْلَهُ أَلقاها |
فإنّ النعل للمسافر الراجل في الصحراء ، أعزّ الأشياء . وبما أنّ الموقف موقف حركة فرار ، إبتدأَ بالقاء العزيز فالأعز حتى وصل إلى النعلين .
٣ ـ يقول سبحانه : ( لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (١) . فَقَدَّمَ الجِهادَ بالأَمْوالِ على الجِهادِ بالأنفس في مَوْردين من هذه الآية .
ويقول سبحانه في آية أخرى : ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
__________________
(١) سورة النساء : الآية ٩٥ .