ونحن نترك للباحث الكريم استكشاف وجه الإختلاف بين الآيتين ، ليستنبطه على ضوء ما ذكرنا . وكم لهذا من نظير في كتاب الله المجيد .
* * *
إنّ التالي لآيات الذكر الحكيم ـ إذا كان ممعناً في تلاوته ـ يرى في كل سورة وآية عظة وتنبيهاً ، وإعلاماً وتذكيراً ، وترغيباً وترهيباً ، وتشريعاً وتقنيناً ، وقصصاً ، وعبراً ، وبراهين وحُجج ، ترقى بروح الإنسان وتحلّق بها في سماء المعنويات . فهذه المعاني العالية السامية الدقيقة ، إذا حَمَلَتْها ألفاظ فصيحة ، وصِيغَتْ في نُظُم رصينة ، وَرُصِّعَتْ بأُسلوب بديع ، وأُلقيت على مقتضى الحال ، بهرت العقول ، وخَلَبَتْ النفوس ، وسَلَّمَتْ بعجزها عن معارضته والإتيان بمثله .
وقد ركّز النبي الأعظم في حديثه عن القرآن ، على هذا الأمر ، حيث قال : « وباطنه عميق » . كما اعترف به عدوّه اللدود ، الوليد بن المغيرة ، حيث قال : « إنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لَمُغْدق » .
إنّ النظرة الفاحصة ، في آثار الكُتّاب والمؤلفين ، تدفعنا إلى القول بأنّهم لا يخرجون عن طائفتين : طائفة تهتم بتزيين الألفاظ دون العناية بسمو المعنى .
وطائفة أُخرى تهتم بإبداع المعاني من دون عناية بتحسين اللفظ .
وقلما يتّفق من يراعي كلا الأمرين ، والجمع بينهما مشكل . لأنّ الألفاظ والجمَل الخلّابة لا تطابق الموضوعية والواقعية . فالذين يرغبون في إفهام المعاني لا يفتشون عن الألفاظ والعبارات الخلّابة . فالجمع بين الجمالين ، رهن عبقرية ونُبوغ قادرين على تحمّل عبئهما .
والقرآن الكريم أَبْرَزُ نَموذَجٍ للقسم الثالث . فألفاظه في منتهى العُذوبة ، ومقاطع الآيات وفواصلها في غاية الأناقة ، والأُسلوب في منتهى البداعة ، وقد ضمّ إلى هذا الجمال الظاهر ، عمقاً في المعنى ، لا تجد له مثيلاً في زبر الأولين وكتب الآخرين .