إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه ، وتماسك كلماته وجمله وآياته ، مبلغاً لا يدانيه فيه أي كلام آخر ، مع طول نَفَسه ، وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد . وآية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم ، وجدت منه جسماً كاملاً ، تربط الأعصاب والأغشية بين أجزائه ، ولمحت فيه روحاً عاماً يبعث الحياة ، والحسن ، على تشابك وتساند بين أعضائه .
فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب . وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء ، متعانقة الآيات . ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (١) .
والآيات القرآنية ، وإن كانت كلّها مظاهر لهذا الإنسجام ، كما يلاحظه التالي لها ، غير أنا نختار من بينها آية تشع نوراً بين الآيات في حسن الإنسجام وروعة النظم ، كأنّها سبيكة واحد ، مع طولها ، وكثرة جملها ، وغزارة معانيها .
يقول سبحانه : ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٢) .
وبما أنّ مسألة الترابط والتآخي في الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها ، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها ، ونعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم :
__________________
(١) سورة الزمر : الآية ٢٨ .
(٢) سورة البقرة : الآية ٢٥٥ .