فإنّه سيرتبك ويقع في التناقض والتهافت من حيث لا يريد ، وقد قيل قديماً : « لا ذاكرة لكذوب » .
وإنّا نرى العالِم النابغ في علمٍ معينٍ ، يؤلّف الكتاب ويستعين عليه بالباحثين ، ثم يطيل التأمّل فيه وينقّحه ويطبعه ، فلا تمرّ سنوات قليلة إلّا ويظهر له الخطأ والإختلاف ، فلا يعيد طبعه إلّا بعد أن يغيّر منه ويصحح ما شاء .
وإنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشؤون ، وتوسّع فيها أحسن التوسّع ، فبحث في الإلهيات والنبوات وسياسة المُدْن ونظم المجتمع ، وقواعد الأخلاق ، وقوانين السلم والحرب ، كما وصف الموجودات السماوية والأرضية ، من شمس وقمر وكواكب ورياح ، وبحار ونبات ، وحيوان وإنسان ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها . ومع ذلك لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء .
والعجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة ، فيطرحها مرتين أو مرّات ، كقصة الكليم ، والمسيح ، ومع ذلك لا تجد فيها اختلافاً في الجوهر .
والحاصل أنّ الكتاب الذي يستعرض جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانية ، كمعرفة المبدأ والمعاد والفضائل الأخلاقية والقوانين الإجتماعية والفردية ، والقصص والعبر ، والمواعظ والأمثال ، وينزل في مدّة تعدل ثلاثاً وعشرين سنة ، على اختلاف الأحوال والظروف ومع ذلك لا تجد في معارفه العالية ، وحكمه السامية ، وقوانينه الإجتماعية والفردية ، تناقضاً ولا اختلافاً ، بل ينعطف آخره على أوله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه .
إنّ مثل هذا الكتاب ، يقضي الشعور الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام ويتأثّر بالظروف والأحوال ، بل هو الله الواحد القهار .
ولعلّ قوله سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (١) ، ناظر إلى كلتا القرينتين ، ويبين أنّ مقتضى الطَبع
__________________
(١) سورة النساء : الآية ٨٢ .