وبملاحظة هذين الجانبين ، يتّضح أنّ أيَّ تقنين لن تكتب له الحياة ، ولن يكتسي ثوب البقاء إلَّا إذا كان متكئاً ومعتمداً في تقنينه على مبدءٍ ومَرْتكَز ثابت لا يتبدل ولا يتغير ، وليس هو إلّا الفطرة الإنسانية التي لا تتبدل مع الأجيال ، وعبر القرون ، وفي خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية .
وقد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا الأساس فبنى مُثُلَه العليا وتشريعاته ، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ويتماشى معها .
يقول سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .
فجعل الملاك في ثبات تشريعه وبقائه ، خلقة الإنسان وطبعه ، الثابتين في جميع ألوان الحياة ومتغيراتها ، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة ، ورفعت الحواجز بين الإنسان وأمانيه ، وقدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر والسيف والسهم والحضارات البدائية ـ فمع ذلك كلّه ـ لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان وفطرته ، بل هي ثابتة كما كانت مُذْ داس الإنسان هذه الكرة ، ولأجل ذلك ترى أُموراً مشتركة بين الإنسان الذي عاش في الحضارات البدائية ، والذي يعاصر الحضارات الصناعية ، وهكذا بين الإنسان القطبي والإستوائي . وفي ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالمٍ ، التحوّلُ والتبدّلُ حليفة وأليفه . وإليك نماذج من هذه القوانين :
١ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة أمر طبيعي محسوس . فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك اختلفت أحكام كلٍّ منهما في التشريع الإسلامي إختلافاً يقتضيه طبعُ كلٍّ منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ، ومسايراً لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المُقْتضي لثبات محموله .
__________________
(١) سورة الروم : الآية ٣٠ .