ترى في هذه الآية ونظائرها التنبؤ الواثق ، بعجز الجن والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، ولكن المستقبل ـ كما يقال ـ غَيْبٌ ، لا يملكه النبيُّ ولا الوصيُّ ولا شخص آخر غيرهما . غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبؤه هذا ، ولا يزال صادقاً إلى الحال . فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه ، الذي صَدَرَ عنه أيضاً في جميع تشريعاته ؟ .
قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّـهِ ، يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّـهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .
ينقل التاريخ أنّ دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ إنهزمت أمام دولة الفرس وهي وَثَنيّة ، بعد حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غَلَبهم المجوس ، وأنْتُم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم .
فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات تنبيء بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها إنتصار لهم في بضع سنين ، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع . تنبّأً بذلك ، وكانت المقدمات والأسباب على خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدلّ عليه قوله : ( فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) . ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قوية ، منيعة ، وزادها الإنتصار الأخير قوة ومنعة . ولكن الله تعالى أنجز وعده ، وحقّق تنبؤ القرآن ، في بضع سنين ، فانتصر الروم سنة ٦٢٤ م ، الموافقة للسنة الثانية للهجرة .
__________________
(١) سورة الروم : الآيات ١ ـ ٦ .