جانب عمّه أبي لهب وزوجته ، وكان رسول الله يجاورهما ، فلم يألُوَا جُهْداً في إزعاجه وإيذائه ، فكم من مرّة أَلقيا الرماد والتراب على رأسه وثيابه ، وكم من مرة نشرت أُم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند خروجه ، ولأجل هذا الإيذاء ، يخصُّ القرآن أبا لَهَبٍ باللّعن ، ويسميه وزوجته (١) .
وكم تعرض أصحابه لألوان العذاب ، كبلال الحبشي ، وآل ياسر وغيرهم ، الذين هم رموز الصمود والمقاومة ، وأوسمة الفخر والاستقامة . وقد قام عبد الله بن مسعود يوماً في المسجد ، ورفع عقيرته بقراءة القرآن لإسماع قريش ، فقرأ : « بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآن » ، فلم تمهله قريش حتى قامت إليه تضربه حتى أدمي وجهه وجسمه ، وهو مع ذلك مسرور لإسماعهم كتاب الله العزيز وآياته المباركات (٢) .
* * *
إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربية ، يكفي في إثبات أنّ الثورة العارمة على التقاليد والعادات السائدة هناك آنذاك ، في مدّة لا تزيد على ثلاث وعشرين سنة ، وصُنْع أُمَّةٍ متحضرة منها ، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن ، أمْرٌ يستحيل تحققه عن طريق العلل المادية ، والأساليب الإصلاحية ، وقد شمل التحوّل جميع جوانب الثقافة والفكر ، والإقتصاد ، والنُّظُم الإجتماعية ، والطقوس الدينية .
وهذا إنْ دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ وراء هذه الثورة ، إمدادات غيبية ، نصرت الثائر ، في جميع مواقفه ، سواء أكانت في مجال التبليغ والتبشير ، أم في مجال الكفاح والجدال ، أم في قلب الأُمة المتوحشة المستبدة ، المتغلغلة في العداء البغضاء ، أُمَّةً مُوَحَّدَةً ، متعاطفة ومتآخية فيما بينها .
__________________
(١) سورة المسد .
(٢) السيرة النبوية ، ج ١ ، ص ٣١٤ .