وأمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي مفتوحة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة ، من غير فرق بين الإتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة والإستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، الذي يشير إليه تعالى بقوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (١) . وأمّا الإتصال به بلا توسيط برهان أو دليل ، بل بمشاهده عين القلب وبصر الروح ، وشهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ماوراء الحسّ والطبيعة من العوالم الروحية ، ومعرفة ما يجري عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره ، والإتصال بجنوده سبحانه وملائكته ، واستماع كلامهم وأصواتهم ، إلى غير ذلك من الأُمور ، إلّا أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين عن سلوك طريق الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات الله ، العاملين بكتابه وسنّة نبيّه ، حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل الأُمور الغيبية ، ومشاهدة جلاله وجماله ، وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات .
وليس ما ذكرنا من إمكان الإتصال ، كلمة خطابية ، أو عرفانية غير معتمِدة على الكتاب والسنّة ، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمُّل والإمعان فيه :
١ ـ قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) (٢) ، أي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرّقونَ به بين الحَقّ والباطل ، وتُمَيّزون به بين الصحيح والزائف بالبرهنة والإستدلال ، أو بالشهود والمكاشفة .
٢ ـ وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٣) .
والمراد من النور ، هو ما يمشي المؤمن في ضوء هدايته في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يغمره نتيجة إيمانه وتقاه ، يوضحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
__________________
(١) سورة فصلت : الآية ٥٣ . ونظيره الذاريات : الآيتان ٢٠ و ٢١ .
(٢) سورة الأنفال : الآية ٢٩ .
(٣) سورة الحديد : الآية ٢٨ .