وهنا احتمال ثان ، وهو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة ، علة مادية غير متعارفة ، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب . ولا بُعْدَ في أن يكون للشيء علتان ، إحداهما يعرفها الناس ، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم . ويمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار ، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي ، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام . وهناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياه وغير ذلك ، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلاً . فإذا كان هذا ملموساً لنا في الحياة ، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة . على أسرار ورموز فيها ، يقدرون بها على إيجاد المعاجز .
ولكنه قول لا يدعمه دليل .
وهنا احتمال ثالث وهو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة ـ التي يعرّفها القرآن بـ « المدبّرات » (١) ، بأمر منه سبحانه ، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها (٢) .
__________________
= التجدد والحدوث ، ممّا لا تتقبله الأصول الفلسفية المبتنية على لزوم وجود السنخية بين العلّة والمعلول ، سنخية ظلية لا توليدية . وهذا مفقود بينه سبحانه ، والزمان والزمانيات التي طبعت على التجدد والتقضّي . وهذا هو البحث الذي طرحه الفلاسفة عند بحثهم عن ارتباط الحادث بالقديم ، وهو من مشكلات البحوث الفلسفية .
ولا ينافي هذا عموم القدرة ، فإنّ عمومها أمر ثابت ومسلّم ، إلّا أنّ الشيء ربما لا يقبل الوجود إلّا عن طريق أسباب وعلل مادية ، أي يكون وجوده على نحو لا يتحقق إلّا في ظل علل مادية . وهذا ـ من باب التقريب ـ كالأرقام الرياضية ، فإنّ العدد خمسة ـ بوصف أنّه خمسة ـ لا يتحقق إلّا بعد تحقق الأربعة ، ويستحيل تحققه ـ بهذا الوصف ـ استقلالاً بلا تحقق آحاد قبله . وهذا كصدور الأكل من إنسان معين ، فإنّ الأكل يتوقف على وجود أسباب وأدوات مادية ، كالفم واللسان والأسنان ، وعملية المضغ ثم البلع . وهذا النوع من الفعل لا يمكن أن ينسب إلى الله سبحانه نسبة مباشرية ، وإنّما ينسب إليه دائماً نسبة تسبيبيّة ، لأن ماهيته محاطة بالأمور المادية .
(١) وهو قوله تعالى في سورة النازعات : ( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) الآية ٥ .
(٢) ولعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم ، كما في قوله سبحانه : ( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) ( سورة مريم : الآية ١٧ ) .