مجالاً وللعلم مجالاً آخر ، ولا يصح
لواحد منهما التدخل في حدود الآخر . وهذا من الحبائل الإِلحادية التي يصطاد بها كثير من الشبان بلا مشقة وشدة ، وهي تدعوهم إلى الاعتقاد بأمرين متضادين : أحدهما يدعو إلى شيء والآخر إلى ما يضاده ، وبما أن الطالب يمارس العلم كل يوم بالأدوات الحسية ، فلا يزال يتباعد عن الدين إلى أن يرفضه ويتركه ويصير ملحداً محضاً ، وأقصى حاله ، أن يكون مسيحياً أو مسلماً بالهوية لا بالحقيقة . إن الدين المعتمد على الوحي النازل
من خالق الكون وصانع نواميسه لا يمكن أن يفترق عن العلم قيد شعرة . فإذا كانت العلوم البشرية كاشفة عن حقائق الكون مع أنها غير مصونة عن الخطأ ، فالوحي الذي لا يأتيه الباطل أولى بأن يكون كاشفاً عن الكون وسننه ونواميسه . ولأجل ذلك يجب في تطوير علم الكلام البحث عن الدين وتبيين مفاده وتعيين حدوده وتشريح موقفه من العلم ، وأنهما هل يمشيان في طريقين مختلفين أو في طريق واحد ، وهل الدين أمر فردي أو اجتماعي . وهل هو يتلخص في الأوراد والأذكار ، أو يعم جميع الشؤون ، وأنه هل يُحكِم ويُبرِم بلا سند قاطع ، أو يعتمد على أوثق المصادر وأقوى المدارك التي لا تقبل الخطأ . كان الشك والترديد في وجود الكون وما
فيه ، والعلوم التي يتبناها الإِنسان ، منهجاً رائجاً في الفلسفة الإِغريقية حتى قضى عليها أرسطو وأُستاذه أفلاطون وغيرهما . إلى أن ظهرت طلائع الحضارة الإِسلامية ، فقام فلاسفة الإِسلام بدحض شبهاتهم ومحوها عن بساط البحث ، فلا تجد بين المسلمين من ينتمي إلى السفسطة ويكون له شأن ومقام بينهم . وفي النهضة الصناعية الأخيرة ، عادت السفسطة إلى الأوساط العلمية بصورة أُخرى ، خادعة هدّامة . وهؤلاء ، مع أنهم يدّعون أنهم من أصحاب الجزم اليقين ، ويكافحون الشك والترديد ، يعتقدون بأن ما يدركه الإِنسان من القضايا بالأدوات المعروفة صادقٌ صدقاً نسبياً لا صدقاً مطلقاً ، صدقاً مؤقتاً لا صدقاً دائماً ، وذلك لأن للظروف الثاني : النسبية أو نفي الحقائق المطلقة