الدليل الرابع : المعاد مجلى لرحمته سبحانه
ومن لطائف الكلام في الذكر الحكيم أنّه عدّ المعاد فرعا لرحمته ، وجعله مجلى لها ، قال سبحانه : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).
فترى أنّه سبحانه يرتّب جمع الناس إلى يوم القيامة ، على قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، وذلك لأنّ هذا اليوم يوم الرحمة للمؤمن والكافر ، غير أنّ الكافر ، قد خسر نفسه باقتراف المعاصي وترك الفرائض في الدنيا ، فلا يتوفق لنيل رحمته تعالى ، ولعلّه سبحانه إلى ذلك يشير في الآية بقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
ويعود معنى الآية إلى أنّ يوم القيامة أشبه بمائدة ممدودة ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، ولكن الانتفاع منها رهن قيود وشروط هي في وسع كل واحد من المكلّفين. فلو حرم الكافر من الرحمة ، فهو بفعل نفسه وما جنته يداه لا من جانبه سبحانه ، وهذا كابتلاء العباد وامتحانهم ، فإنّه رحمة ، لأنّ الهدف منه خروج الطاقات من القوة إلى الفعل ، والكمالات من الخفاء إلى البروز ، ولكن الكافر لا يخرج منه إلّا راسبا غير مستفيد من أهداف الابتلاء ، بل يخسر نفسه بفتور عزمه في مجال الطاعة.
ويمكن استفادة ذلك من الآية التالية ، وهي قوله سبحانه :
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢). فللآية دلالتان :
المطابقية منهما تهدف إلى تشبيه إحياء الموتى بإحياء الأرض حتى يرجع المنكر عن إنكاره بمشاهدة إحياء محسوس ، وهو إحياء الأرض. والالتزامية منهما تدلّ على أنّ
__________________
(١) سورة الأنعام : الآية ١٢.
(٢) سورة الروم : الآية ٥٠.