المعاد الروحاني عند الحكماء
قد وقفت على تضافر آيات الكتاب وأحاديث السنّة على عدم حصر المعاد في الجسماني ، كما تعرفت على حكم العقل في ذلك المجال ، وأنّ حصره في المعاد الجسماني يخالف رحمة الله الواسعة وحكمته البالغة ، وعلى ذلك فالشرع والعقل متعاضدان على أنّ هناك معادا غير المعاد الجسماني ، ولكن يجب إلفات نظر الباحث في المقام إلى نكتة وهي أنّ المعاد الروحاني في الكتاب والسنّة يرجع إلى اللذات والآلام الروحية التي تلتذ بها النفس أو تتألم من دون حاجة إلى آلة جسمانية. وقد عرفت ما هو الوارد في الكتاب في هذا المجال من رضوانه سبحانه ولقائه والابتعاد عن رحمته وإحاطة الحسرة بالإنسان في تلك النشأة ، فهذه هي حقيقة المعاد الروحاني التي تتلخص في غير اللذات والآلام الجسمانية ، وعلى هذا فهو يعمّ جميع أهل الجنة والنار من غير فرق بين الكاملين والمتوسطين.
وعلى الجملة هناك لذّات روحية وآلام كذلك تحيط أهل الجنّة والنار من غير فرق بين طبقاتهم. وأمّا المعاد الروحاني عند الحكماء ، فهو يختلف عمّا وقفنا عليه في الكتاب بأمرين :
الأول : إنّهم يخصّون المعاد الروحاني باللذات العقلية أي درك العقل الأمور الملائمة والمنافرة له ، فإن اللذة عندهم على وجه الإطلاق تفسّر بإدراك الملائم من حيث هو ملائم ، كالحلو من المذوقات. والملائم للنفس الناطقة ، إدراك المعقولات بأن تتمكن النفس من تصوّر ما يمكن أن يدرك من الحق تعالى ، وأنه واجب الوجود ، بريء عن النقائص والشرور والآفات ، منبع فيضان الخير على الوجه الأصوب ، ثم إدراك ما يترتب بعده من العقول والنفوس المجرّدة والأجرام السماوية والكائنات العنصرية حتى تصير النفس بحيث ترتسم فيها صور جميع الموجودات على الترتيب الذي هو لها.
وعلى هذا فإدراك الحس ، الملائم للحس ، معاد جسماني. وإدراك العقل ، الملائم له ، من الوجودات العالية ، معاد روحاني.
وهذه العلوم وإن كانت حاصلة لبعض النفوس في هذه النشأة إلا أنّها معرفة