الثاني ـ الحياة القبلية تمنع من الاتفاق على قائد
من أبرز ما كان يتميز به المجتمع العربي في حياة النبي الأكرم ، هو حياة النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتل ـ في ذلك المجتمع ـ مكانة كبرى.
وقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية قبل الإسلام وبعده ، وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات ، وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات.
إنّ التاريخ يشهد لنا كيف كاد التنازع القبلي في قضية بناء الكعبة المشرّفة ، ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية ، أن يؤدي إلى الاختلاف ، فالصراع الدموي ، والاقتتال المرير ، لو لا تدخل النبي الأكرم (١).
وقد سعى النبي الأكرم ، سعيا حثيثا ، لمحو الروح القبلية ، وإذابة الفوارق العشائرية ، وجمع تلك المتشتتات في بوتقة الإيمان الموحّد ، ولكن لم يكن من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدة ثلاث وعشرين عاما إلى نظام موحد إسلامي ، لا يرى للانتساب إلى القبيلة فخرا ، سوى التعرّف والتعريف (٢).
والشواهد على تغلغل العصبيات القبلية في نفوس أكثر الصحابة ، كثيرة ، ويكفي في ذلك ما ورد في غزوة بني المصطلق ، حيث تنازع مهاجري مع أنصاريّ ، فصرخ الأنصاري : «يا معشر الأنصار» ، وصرخ الآخر : «يا معشر المهاجرين». ولما سمع النبي هذه الكلمات قال : «دعوها فإنّها دعوى ميتة». ولو لا قيادته الحكيمة ، لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار (٣).
وما نقله ابن هشام من أن شعث بن قيس ، وكان شيخا من اليهود ، مرّ
__________________
(١) قد ذكرنا هذه القضية فيما تقدم.
(٢) إشارة إلى قوله سبحانه : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (سورة الحجرات : الآية ١٣)
(٣) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ١١٩ ، باب غزوة بني المصطلق.