وإذا رأيت أحدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من ذلك الآثار شيء ، حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر ، فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شيء ، وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام ، أو دوران ، أو شطح ، أو صياح ، أو ما يناسب ذلك ، وسببه أن الذي حلّ بباطنه ليس بالرقة المذكورة أولا ، بل هو الطرب الذي يناسب الغناء ، لأن الرقة ضد القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الخشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب للحركة ، لأنه ثوران الطباع ، ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان ، كالإبل والنحل ، ومن لا عقل له من الأطفال ، وغير ذلك ، والخشوع ضده ، لأنه راجع إلى السكون ، وقد فسر به لغة ، كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور.
قال الشاعر :
طرب الواله أو كالمختبل
والتطريب مدّ الصوت وتحسينه.
وبيان أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين :
أحدهما : ما فيه من الحكمة والموعظة ، وهذا مختص بالقلوب ، ففيها تعمل بها تنفعل ، ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح.
والثاني : ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحينية ، وهو المؤثر في الطبائع ، فيهيجها إلى ما يناسبها ، وهي الحركات على اختلافها ، فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة ، وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب ـ ولا شك أنه محمود ـ وكل تأثر يحصل عنه ضد السكون ، فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ، ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود ، لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد ـ في الغالب ـ إلا الثاني المذموم ، فهو إذا متواجدون بالنغم واللحون ، لا يدركون من معاني الحكمة شيئا ، فقد باءوا إذا بأخسر الصفقتين ، نعوذ بالله ، وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ، ومن جهة أنهم استدلوا بغيره ، فقوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (١) وقوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ
__________________
(١) سورة : الذاريات ، الآية : ٥٠.