وعن مجاهد : (قصد السبيل) أي : المقتصد منها بين الغلو والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع.
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها ومنكم جائر قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد.
ومنها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١).
هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا عائشة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) من هم؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء» (٢).
قال ابن عطية : هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ، يريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له ، وسيأتي ذكره بحول الله.
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة (٣) ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت؟ قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب ، فقال عطاء : عرفت فالزم.
وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا ، فقطعوا عليه
__________________
(١) سورة : الأنعام ، الآية : ١٥٩.
(٢) عزاه في جمع الفوائد (٢ / ٢٣١) إلى المعجم الصغير للطبراني.
(٣) الكوفة : بلد بأرض بابل من سواد العراق تم تمصيرها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة ١٧ ه.