قوله لما علموا منه ، فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد ، فخرج إليهم وقال : ما شأنكم؟ فقالوا : والله لقد خفنا من هذا الرجل ، وقد اشتد الآن غضبه عليك في ترك الدعاء ، فقال لهم : لا أخرج عن عادتي ، فأخبروه بالقصة ، فقال لهم ـ وهو متبسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ، ودخل داره ، وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل ، فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية ، وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه ، فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة.
وقد روى بعض الإشبيليين (١) الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر.
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته ، أراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله ، فأبى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله ، فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره ، فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها.
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك. فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي صلىاللهعليهوسلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة.
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط ، كالعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والعدل والجور ، والجود والبخل ، والغنى والفقر ، والعز والذل ، غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم ، وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك ، وشجاع كذلك ، إلى سائرها.
فكذلك سقوط البدع بالنفوس ، إلا أن في ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم لها فائدة أخرى ، وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :
__________________
(١) إشبيلية : مدينة كبيرة بالأندلس كان بها بنو عباد وهي قريبة من البحر عليها جبل كثير الشجر وهي على شاطئ نهر كبير.