ولا تعارض ، على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ، ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ، ولم يغيّروا في وجه إعجازه بشيء مما نفى الله تعالى عنه ، وهم أحرص ما كانوا على الاعتراض فيه والغضّ من جانبه ، ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه ، لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض ، والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب ، أو توقف المتثبت في الطريق.
وقد صحّ أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم ، فلقد رأيتنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمره لرددناه ، وأيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث.
فوجد الشاهد منه أمران : قوله : اتهموا الرأي ، فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه ، وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله وما وضعنا سيوفنا إلى آخره ، فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي ، وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه ، بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع ، فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ، ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج ، فإنه متمسك بالعروة الوثقى.
وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكدت أساوره في الصلاة ، فصبرت حتى سلم ، فلببته بردائه ، فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ ... فقال : أقرأنيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقلت : كذبت ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أرسله ، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر! ـ القراءة التي أقرأني فقال ـ : «كذلك