الحق والصواب ، كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة ، فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء ، والنحويون أيضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ، ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن ، وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة ، فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها ، بناء على أن التي قرءوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه ، محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء ، فلو كانت خطأ لردوها علينا ، وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال ، وتهمة للعلم ، فصارت بدعة جارية ـ أعني : القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح ، فنعوذ بالله من المخالفة.
ولقد لج بعضهم حين ووجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ، فكان القرشي المقرئ أقرب مراما منهم. حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي ، وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارئ يوما : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١) فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين ، فراجعه القارئ ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرئ وثبت على التنوين ، فانتشر الخبر إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرئ ـ فنهض إليه ، فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه ، فقال : أريد أن أبتدئ بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات ، فقال المقرئ : ما شئت ، فقرأ عليه من أول المفصل ، فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بالتنوين ، فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ، ما هي إلا غير منونة بلا شك ، فلج المقرئ ، فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف ، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو ، فإن الأفعال لا يدخلها التنوين ، فتحير المقرئ ، إلا أنه لم يقنع بهذا ، فقال له ابن مجاهد : بيني وبينك المصاحف ، فأحضر منها جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين ، فرجع المقرئ إلى الحق. انتهت الحكاية ، ويا ليت مسألتنا مثل هذه ، ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب.
__________________
(١) سورة : ق ، الآية : ١٩.