فإذا تقابل عنده الجائزان ، وتعارض لديه الاحتمالان ، وهو يتوقع في التمسك بأحدهما التعرض للنعيم المقيم ، ويرقب في ملابسة الثاني استيجاب العذاب الأليم ، فالعقل يقضي باختيار سبيل النجاة ، وإيثار تجنب المهلكات. فإذا كان السبيل المفضي إلى العلم بوجوب النظر اختلاج الخواطر في النفس ، وتعارض الجائزات في الحدس ، فمن ذهل عن هذه الخواطر ، وغفل عن هذه الضمائر ، فلا يكون عالما بوجوب النظر.
ويلزم الخصوم في مدارك العقول ، عند الغفلة والذهول ، ما ألزمونا في مقتضى الشرع المنقول. وما ألزمناهم من فرض الكلام عند عدم الخاطرين يناظر ادعاء النبوة مع عدم المعجزة ، فلزمهم العكس ولم يلزمنا ما قالوه فإن المعجزة إذا ظهرت وتمكن العاقل من دركها ، كانت بمثابة جريان الخاطرين على زعم الخصم ؛ فإذا جريا ، فإمكان النظر في اختيار أحدهما كإمكان النظر في المعجزة عند ظهورها.
ثم نقول : شرط الوجوب عندنا ، ثبوت السمع الدال عليه ، مع تمكن المكلف من الوصول إليه. فإذا ظهرت المعجزات ، ودلت على صدق الرسل الدلالات ، فقد تقرر الشرع واستمر السمع المنبئ عن وجوب الواجبات وحظر المحظورات. ولا يتوقف وجوب الشيء على علم المكلف به ، ولكن الشرط تمكن المخاطب من تحصيل العلم به.
فإن قيل : ما الدال على وجوب النظر والاستدلال من جهة الشرع؟ قلنا : أجمعت الأمة على وجوب معرفة الباري تعالى ، واستبان بالعقل أنه لا يتأتى الوصول إلى اكتساب المعارف إلا بالنظر ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.
باب
حقيقة العلم
العلم معرفة المعلوم على ما هو به ، وهذا أولى في روم تحديد العلم من ألفاظ مأثورة عن بعض أصحابنا في حد العلم ؛ منها قول بعضهم : العلم تبين المعلوم على ما هو به ؛ ومنها قول شيخنا رحمهالله : العلم ما أوجب كون محله عالما ؛ ومنها قول طائفة : العلم ما يصح ممن اتصف به إحكام الفعل وإتقانه.
فأما قول من قال : هو تبين المعلوم على ما هو به ، فمرغوب عنه ، إذ التبين ينبئ عن الإحاطة بالمعلوم عن جهل أو غفلة ، إذ يقول من علم ما لم يكن عالما به : قد تبينته ، وغرضنا من الحد ذكر ما يشتمل على العلم القديم والحادث.