أحدها إثبات جواز انبعاث الرسل ردا على البراهمة ؛ والثاني المعجزات وشرائطها ، وفيه تبيين تمييزها من الكرامات والسحر ، وما يتميز به مدعي النبوءة ؛ والثالث في إيضاح وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول ؛ والرابع في تخصيص نبوة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم بالآيات ، والرد على منكريها من أهل الملل ؛ والخامس الكلام في أحكام الأنبياء. وما يجب لهم وما يجوز عليهم.
فصل
قد أنكرت البراهمة النبوءات ، وجحدوها عقلا ، وأحالوا ابتعاث بشر رسولا. ونحن نذكر ما يعتقدونه من شبههم ، ونتفصى عنها أولا. فمما يسترحون إليه أن قالوا : لو قدرنا ورود نبي لم يخل ما جاء به من أن يكون مستدركا بقضية العقل ، أو لا يكون مستدركا بها. فإن كان ما جاء به مما يوصل العقل إليه ، فلا فائدة في ابتعاثه ، وما يخلو عن غرض صحيح عبث وسفه ، وإن كان ما جاء به مما لا يدل عليه العقول ، فلا يتلقى بالقبول ، فإنما المقبول مدلول العقول.
وشبه البراهمة مبنية على تحسين العقول وتقبيحها ، ولو نازعناهم في ذلك لم تستمر لهم شبهة ولكنا نسلم لهم جدلا يقتضيه العقل ، وأن لا يكون مستدركا هذا الأصل ، ونبين بطلان ما يعولون عليه مع تسليمه ، فنقول :
لا يمتنع تأكيد أدلة العقول بما جاء به الرسول ، وهذا بمثابة قيام أدلة عقلية على مدلول واحد ، وإن كان الاكتفاء يقع بدلالة واحدة فلا نجعل ما عداها عبثا. ثم لا يمتنع أن يقع في معلوم الله تعالى أن الرسول إذا ابتعث كان ابتعاثه لطفا في الأحكام العقلية ، وينتدب العقلاء لها عند إرسال الرسول ، فإذا لم يمتنع ما قلناه بطل ادعاؤهم بخلو الابتعاث عن غرض.
ثم نقول : لم زعمتم أن ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا لم يكن مدلول العقل كان باطلا؟ وبم تنكرون على من يزعم أن ذلك يجري مجرى ما لو تقدم عليل إلى طبيب يسائله عما يصلح له ، فهو على الجملة يعلم أن المبتغى ما يشفيه ، ولكن لا يتعين له ما فيه شفاؤه ، والطبيب ينص له على ما يشفيه.
وكذلك المبعوث إليهم لا يتعين لهم قبل البعثة ما يصلحهم مما يبتعث الرسول فيه ، فإذا أرسل نص على المراشد وأوضح مناهج المقاصد.
ويقال لهم : لم زعمتم أن العقول تغني عن ابتعاث الرسول صلىاللهعليهوسلم؟ فهلا جوزتم إرسال الرسل لتبيين الأغذية والأدوية ، وتمييزها عن السموم المؤذية والأنبتة المضرّة ، وشيء من ذلك لا يستدرك عقلا؟ فإن قالوا : أطول التجارب يرشد إلى هذه المذاهب ، قلنا : عدم التجارب إلى استقرارها يفضي إلى المعاطب واقتحام المضار. ولو ثبت الإرشاد أولا ، لما مست الحاجة إلى معاطات السموم وتمييزها عما عداها.