فاستبان بما ذكرناه ، أن المصير إلى تقدير صفة يستحيل معها الاتصاف بحديث النفس عن المعلوم بالعلم ، على حسب تعلق العلم به ادعاء استحالة تأباها العقول. ويعتضد ما ذكرناه بأن العالم بالشيء ، لو لم يتكلف إخطار خلف بقلبه ، لاستمر له حديث النفس صدقا مع العلم بالذي يتكلف تقديرا ، وليس بصفة مضادة للحديث الصادق.
فهذا القدر كاف هنا ، وهو قاض باتصاف الباري تعالى بالكلام المتعلق بالمعلوم ، على حسب تعلق العلم به. ومن ابتغى مزيدا على ذلك ، فليتأمل الشامل.
القول
في إثبات نبوءة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم
فصل
قد قدمنا ما يتعلق بإثبات أصل النبوءات على الجملة ، وغرضنا الآن الاعتناء بإثبات نبوءة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقد أنكر نبوءته طائفتان ، تمسكت إحداهما بالمصير إلى منع النسخ ، وتمسكت الأخرى بالمماراة في آياته ومعجزاته. وذهبت طائفة من اليهود يسمون العيسوية (١) ، إلى إثبات نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولكنهم خصصوا شرعه بالعرب دون من عداهم.
فأما من أنكر النسخ ، وإليه ذهب معظم اليهود ، فمقصدنا في إبطال ما انتحلوه لا يتبين إلا بذكر حقيقة النسخ على اختصار واقتصار على ما فيه غنية.
فالمرضي عندنا ، أن النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب أخر ، على وجه لولاه لاستمر الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق ، رفع حكم بعد ثبوته.
والمعتزلة يصيرون إلى أن النسخ لا يرفع حكما ثابتا ، وإنما يبين انتهاء مدة شريعة ، وإلى ذلك مال بعض أئمتنا ، وقالوا : النسخ تخصيص الزمان ؛ وعنوا به أن المكلفين إذا خوطبوا بشرع مطلق ، فظاهر مخاطبتهم به تأبيده عليهم ، فإذا نسخ استبان أنه لم يرد باللفظ إلا الأوقات الماضية.
وهذا عندنا نفي للنسخ وإنكار لأصله ، ورد له إلى تبيين معنى لفظ لم يحط به أولا وتنزيل له
__________________
(١) فرقة تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني وقيل : إن اسمه عوفيد ألوهيم أي عابد الله. كان في زمن المنصور وزعم أنه نبي وأنه رسول المسيح المنتظر. انظر الملل والنحل.