عليه ، ولم تزل دورة للفلك قبل دورة إلى غير أول ، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح ، فكل ذلك مسبوق بمثله ، وكل ولد مسبوق بوالد ، وكل زرع مسبوق ببذر ، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة.
فنقول : موجب أصلكم يقضي بدخول حوادث لا نهاية لأعدادها ، ولا غاية لآحادها ، على التعاقب في الوجود ، وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول ، فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها.
ونقول : من أصل الملحدة ، أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها ، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن يتصرم بالواحد على إثر الواحد ؛ فإذا انصرمت الدورة التي قبل هذه الدورات ، أذن انقضاؤها وانتهاؤها بتناهيها ، وهذا القدر كاف في غرضنا.
فإن قيل : مقام أهل الجنان مؤبد مسرمد ، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها ، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها ، قلنا : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي ، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى ، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد. والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول ، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض ، وليس من حقيقة الحادث أن يكون له آخر.
وضرب المحصلون مثالين في الوجهين ، فقالوا : مثال إثبات حوادث لا أول لها ، قول القائل لمن يخاطبه : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا ، ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما ، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما.
ومثال ما ألزمونا ، أن يقول القائل : لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما ، ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا ، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط.
فإذا ثبت بما ذكرناه ، الأعراض وحدوثها ، واستحالة تعرّي الجواهر عنها ، واستنادها إلى أول ، فيخرج من مضمون هذه الأصول أن الجواهر لا تسبقها ، وما لا يسبق الحوادث حادث على الاضطرار من غير حاجة إلى نظر واعتبار.
وهذه اللمع كافية في إثبات حدث الجواهر والأعراض ، ونحن بعد ذلك نوضح الطريق الموصل إلى العلم بالصانع ، وبالله التوفيق.
باب
القول في إثبات العلم بالصانع
إذا ثبت حدث العالم ، وتبين أنه مفتتح الوجود ، فالحادث جائز وجوده وانتفاؤه ، وكل وقت صادفه وقوعه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات ، ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته