مخامرة الشكوك ، واختلاج الريب. والتصديق عرض لا يبقى ، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام ، ثابت لغيره في بعض الأوقات ، زائل عنه في أوقات الفترات. فيثبت للنبي عليه الصلاة والسلام أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها ، فيكون إيمانه بذلك أكثر. فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان ، وأريد بذلك ما ذكرناه ، لكان مستقيما ، فاعلموه.
فإن قيل : قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة ، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله ، فما محصول ذلك؟ قلنا : الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه. ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة ، إيمان الموافاة ؛ فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة ، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز.
باب التوبة
التوبة في حقيقة اللغة الرجوع ، يقال : تاب وناب وأناب إذا رجع. وإذا أضيفت التوبة إلى العبد ، أريد بها رجوعه من الزلات إلى الندم عليها ، على ما سنحد التوبة في اصطلاح المتكلمين وإذا أضيفت التوبة إلى أفعال الله تعالى ، فالمراد رجوع نعمه وآلائه إلى عباده.
فإن قيل : حرروا عبارة في حقيقة التوبة على اصطلاحكم. قلنا : التوبة هي الندم على المعصية ، لأجل ما يجب الندم له ، ثم الندم تلازمه صفات ليست منه عموما ، وتلازمه صفات في بعض الأحوال دون بعض فأما الصفات التي تلازم التوبة أبدا ، فمنها الحزن والغم على ما تقدم من الإخلال بحق الله تعالى ؛ إذ من المحال أن يثبت الندم دون ذلك ، والفرح المسرور بما فرط منه لا يندم عليه. ومما يقارنه تمني عدم ما كان فيما مضى وكل نادم على فعل يجب اتصافه بتمني عدمه فيما مضى.
ومما يقارن التوبة في بعض الأحوال ، العزم على ترك معاودة ما ندم المكلف عليه ، وذلك لا يطرد في كل حال ؛ إذ إنما يصح العزم من متمكن من فعل ما قدمه ؛ ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ، ولا من الأخرس العزم على ترك قذف المحصنات. فإن صدر الندم من متمكن من مثل ما ندم عليه ، فلا بد أن يقارن ندمه العزم على ترك معاودته. إذ من المستحيل أن يكون موطنا نفسه على معاودة ما ندم على تقديمه رعاية لحق الله تعالى.
فإن قيل : لم قلتم إن التوبة هي الندم؟ قلنا : لأنه الثابت الذي لا يزول في التوبة ، وما عداه يتزايد ويختلف ، ومنه ما يثبت تارة وينتفي أخرى. وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الندم توبة» فلزمنا ذلك لمساوقة الخبر وموافقته الأثر. فإن قيل : لم لا يجوز أن يسمى ترك المعصية توبة ، من غير ندم؟ قلنا : هذا مما يأباه الشرع. فإن الماجن إذا ملّ مجونه ، واستروح إلى بعض المباحات ، غير نادم على فارط الزلات ، وكان على عزم معاودتها ، فهذا يسمى تاركا للزلة ، ولا يسمى تائبا عنها.