المتكلم فقد نقض المصير إلى أن المتكلم من فعل الكلام ، فإن الكلام من فعل الله في الصورة المفروضة ؛ وإن زعم أن محل الكلام أو الجملة التي محل الكلام منها ليست بمتكلمة ، فقد عاند وجحد ما يداني البداية ؛ فإنا نسمع من قام به الكلام يقول : قد قمت اليوم إلى زيد ، كما كنا نسمعه يقول ذلك ، إذ هو مختار.
ولو بنينا غرضنا من هذا الفصل على أصلنا في استبداد الرب سبحانه بالخلق ، واستحالة كون غيره موجدا ؛ فيتضح على هذا الأصل بطلان المصير إلى أن الباري تعالى إنما كان متكلما من حيث كان فاعلا للكلام ، إذ هو فاعل كلام المحدثين وليس متكلما به.
ويتضح الإلزام على البخارية : فإنهم يوافقون أهل الحق في أن الرب تعالى خالق أعمال العباد ، فلا يستمر لهم ، وهذا معتقدهم ، القول بأن المتكلم من فعل الكلام. ثم الكلام على مذهب المخالفين أصوات ، فلئن كان المتكلم من فعل الكلام ، فليكن المصوت من فعل الصوت. ويلزم من سياق ذلك كون الباري تعالى عن قول الزائغين ، مصوتا من حيث كان فاعلا للصوت.
وإذا بطل بهذه القواطع مذهب من يقول المتكلم من فعل الكلام فلا بد من اختصاص الكلام بالمتكلم على وجه من الوجوه. فإذا انتقض وجه الفعل فلا يبقى على السبر والتقسيم ، بعد بطلان ما ذكرناه إلا ما ارتضيناه من أن المتكلم من قام به الكلام. ثم ثبوت هذا الأصل يفضي إلى أن الكلام يوجب حكما لمحله وهو كونه متكلما ؛ فإن كل صفة قامت بمحل أوجبت له حكما.
فهذه مقدمات كافية لغرضنا في الرد على المخالفين : ثم نوجه عليهم طلبات قبل الخوض في مقصود المسألة ، تقول : الكلام في تفاصيل «الكلام» فرع لثبوت كون الباري تعالى متكلما ، فبم ينكرون على من يزعم أنه ليس بمتكلم أصلا؟.
فإن زعموا أن المتكلم : من فعل الكلام ، والباري سبحانه وتعالى مقتدر على خلق الكلام وإبداعه.
قلنا : قد أبطلنا عليكم ذهابكم إلى أن المتكلم : من فعل الكلام بالطرق المتقدمة ؛ ثم ما ذكرتموه اكتفاء منكم بأن الكلام مقدور للباري ، فلم زعمتم أن مقدوره قد وقع ، وليس كل ما يقضي العقل بكونه مقدرا للباري تعالى يجب كونه واقعا ، إذ ذاك يؤدي إلى وقوع ما لا يتناهى من الحوادث من حيث كانت المقدورات غير متناهية؟
فإن قالوا : إنما عرفنا وقوع الكلام ، واتصافه تعالى بكونه متكلما ، بالمعجزات ، والآيات الخارقة للعادات ، الدالة على صدق مدعي النبوّات ؛ ثم الأنبياء أخبروا عن كلام الله تعالى ووقوعه ، وهم : المصدقون والمؤيدون بالآيات المحققة ، والبراهين المصدقة ؛ وعضدوا كلامهم هذا بأن قالوا : قد أسندتم العلم بنفي النقائص إلى السمع ، ثم بنيتم إثبات كلام الله تعالى على المعجزات ، فبم تنكرون على من يسلك مسلككم في ذلك؟ قلنا : خصومنا من المعتزلة ، ومن انتحى نحوهم ،