باب
في أحكام النظر
أول ما يجب على العاقل البالغ ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا ، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم. والنظر في اصطلاح الموحدين ، هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن. ثم ينقسم النظر قسمين : إلى الصحيح ، وإلى الفاسد ؛ والصحيح منه كل ما يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل ؛ والفاسد ما عداه. ثم قد يفسد النظر بحيده عن سنن الدليل أصلا ، وقد يفسد مع استناده للسداد أولا لطروء قاطع.
فإن قيل : قد أنكرت طائفة من الأوائل إفضاء النظر إلى العلم ، وزعموا أن مدارك العلوم الحواس ، فكيف السبيل إلى مكالمتهم؟ قلنا : الوجه أن نقسم الكلام عليهم ، فنقول : هل تزعمون أنكم عالمون بفساد النظر ، أو تستريبون فيه؟ فإن قطعوا بفساد النظر ، فقد ناقضوا نص مذهبهم في حصر مدارك العلوم في الحواس ، إذ العلم بفساد النظر خارج عن قبيل المحسوسات.
ثم نقول : أعلمتم فساد النظر ضرورة ، أم علمتموه نظرا؟ فإن زعموا أنهم علموه ضرورة كانوا مباهتين ، ثم لا يسلمون عن مقابلة دعواهم بنقيضها. وإن زعموا أنهم أدركوا فساد النظر بالنظر ، فقد ناقضوا كلامهم ؛ حيث نفوا جملة النظر وقضوا بأنه لا يؤدي إلى العلم ، ثم تمسكوا بنوع من النظر ، واعترفوا بكونه مفضيا إلى العلم.
وإن قالوا : أنتم إذا أثبتم النظر وادعيتم أداءه إلى العلم ، أتسندون دعواكم إلى الضرورة ، أو تسندونها إلى النظر؟ فإن ادعيتم الضرورة لزمكم ما ألزمتمونا وانعكس عليكم مرامكم ؛ وإن حكمتم بصحة النظر بالنظر فقد أثبتم الشيء بنفسه ، وذلك مستحيل. قلنا : كلامكم هذا يفيدكم شيئا ، أو لا يفيدكم شيئا أصلا؟ فإن زعموا أنه لا يفيد علما ولا يجلب حكما ، فقد اعترفوا بكونه لغوا ، وكفونا مئونة الجواب.
وإن زعموا أنه يفيد العلم بفساد دليلنا ، فقد تمسكوا بضرب من النظر في سياق إنكار جميعه. وإن قالوا : غرضنا مقابلة الفاسد بالفاسد ، رددنا عليهم التقسيم ، وقلنا : معارضة الفاسد بالفاسد من وجوه النظر. ثم نقول : لا بعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره ، وهذا كالعلم يتعلق بالمعلومات ويتعلق بنفسه ؛ إذ بالعلم يعلم العلم ، كما به يعلم سائر المعلومات.
وإن قال السائل : لست قاطعا ببطلان النظر فيطرد عليّ تقسيمكم ، وإنما أنا مستريب مسترشد ؛ فالوجه أن يقال لمن رام إرشادا : سبيلك أن تنظر في الأدلة نظرا قويما ، وتنهج فيها نهجا مستقيما ؛