من أوجه : أقربها أن الإدراك الواحد لا يقوم إلا بالجوهر الفرد ، ثم لا أثر للجواهر المحيطة بمحل الإدراك في محل الإدراك ؛ فإن كل جوهر مختص بحيزه موصوف بأعراضه ، ولا يؤثر جوهر في جوهر.
وإنما تثبت أحكام الجواهر من أعراضها المختصة بها قياما ، وكذلك لا يؤثر عرض قائم بجوهر في جوهر آخر.
فإذا ثبت بما ذكرناه أن الجواهر التي يقدر اجتماعها مع محل الإدراك غير مؤثرة فيه ، ووجودها في حكمه كعدمها ، فيفضي مجموع ذلك إلى القطع بنفي اشتراط بنية وتركيب على صفة مخصوصة ، وذلك قاطع في مقصودنا.
ومما يقوي التمسك به في نفي اشتراط البنية ، أن الشرط حكمه أن يطرد شاهدا وغائبا ، ولذلك قالت المعتزلة : لما كان كون الحيّ حيا شرطا في كونه عالما شاهدا لزم القضاء بمثل ذلك غائبا.
فيلزمهم على هذا الشرط أن نقول لهم : لو كان كون المدرك مدركا شاهدا مشروطا بكونه مبنيا ، للزم من وصف الباري بكونه مدركا وصفه بكونه مبنيا ، تعالى الله عن قول المبطلين.
وإذا ثبت الإدراك وتقرر عدم افتقاره إلى بنية ، وجواز قيامه بالجوهر الفرد ، فنبني على ذلك أصلا في إيضاح بطلان عصمة المعتزلة ، وذلك أنهم قالوا : لا يدرك المدرك بإدراك الرؤية ، حتى ينبعث شعاع من ناظر الرائي ويتصل بالمرئي ؛ فإذا استد الشعاع وتحقق انبعاثه من الحاسة على المرئي ، واستقرت قواعده عليها ، ولاقى الطرف الأخير المرئي ولم ينب عنه ، فيرى عند ذلك.
فإذا كان بين المرئي والرائي حجاب كثيف يمنع الشعاع من النفوذ لم يره. فإذا بعدت المسافة ، وصارت بحيث تنبو الأشعة وتبيد ، فلا يرى البعيد ، وإن أفرط قربه من الناظر ، وامتنع من إفراط القرب انبعاث الشعاع لم ير أيضا ؛ ولذلك لا يرى داخل الأجفان عندهم.
وحملوا رؤية الرائي نفسه عند النظر إلى جسم صقيل على ذلك ، فقالوا : الأشعة تنبعث ، فإذا لاقت جسما صقيلا ، لم تتشبث فيه إذ لا تضرس للصقيل ، فينعكس الشعاع إلى الناظر ، ويتصل به ، فيدرك إذ ذاك نفسه ؛ وإذا انفرج الشعاع من الأحوال وغيره ، لم يدرك المدرك على ما هو عليه لعدم امتداد الشعاع ، في هذيان طويل لا يحتمل هذا المعتقد شرحه.
وكل ما هذوا به مبنيّ على انبعاث أشعة هي أجسام لطيفة مضيئة من حاسة البصر ، ولا يجوز تقدير انبعاثها من غير بنية العين.
وإذا أبطلنا بما قدمناه افتقار الإدراك ، وكون المدرك مدركا ، إلى بنية ، فذلك يتضمن إفساد ما رتبوه على البنية لا محالة.
ثم الشعاع أجسام عندهم في داخل العين تنبعث منها عند فتح الأجفان. فيقال لهم : ما الذي يوجب انبعاثها؟ وهلا استقرت في أحيازها؟ وما الموجب لانقباضها وانبساطها؟ فإن زعموا أن في