فإن قائلا منهم لو قال : باضطرار تعلم استحالة وجود موجود لا مجامع للعالم ولا مفارق له ، لم تدفع هذه الدعوى إلا بمثل ما دفعنا به شبهة نفاة الرؤية. ثم الباري تعالى يرى خلقه من غير جهة ، فجاز أن يرى في غير جهة.
وينبغي للمبتدي في هذا الفن ، أن لا يغفل عن معارضتهم بالعلم وكون الرب تعالى معلوما ، في كل ما يتمسكون به في نفي جواز الرؤية.
فصل
قد ثبت بموجب العقل جواز رؤية الباري تعالى ، وهذا الفصل يشتمل على أن الرؤية ستكون في الجنان ، وعدا من الله تعالى صدقا وقولا حقا.
والدليل عليه نصّ الكتاب ، وهو قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [سورة القيامة : ٢٢ ـ ٢٣].
والنظر ينقسم معناه في اللغة ، وتعتوره وصائل مختلفة على حسب اختلاف معانيه. فإن أريد به التقرب والانتظار ، استعمل من غير صلة ؛ قال الله تعالى في الإنباء عن أحوال المنافقين ومخاطبتهم المؤمنين ، وقد حيل بينهم وبينهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد : ١٣] ، معناه : انتظرونا. وإن أريد بالنظر الفكر ، وصل بفي ، فتقول : نظرت في الأمر ، إذا تدبرته. وإذا أريد به الترحم ، وصل باللام ، فتقول : نظرت لفلان. وإذا أريد به الإبصار ، أي الرؤية وصل بإلى.
والنظر في الآية التي احتججنا بها موصول بإلى خبر عن الوجوه الناظرة المستبشرة ، فاقتضاء النظر إثبات الرؤية. فإن عارضونا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام : ١٠٣] ، قلنا : في الكلام على هذه الآية مسالك. منها ، إن الرب تعالى لا يدرك جريا على ظاهر الآية ، بل يرى. وإنما امتنع من سلك هذا المسلك من إطلاق الإدراك لإنبائه عن الإحاطة وتضمنه اللحوق ، وإنما يلحق ذو الغايات ، والرب تعالى يتقدّس عن التحديد بالنهايات. وهؤلاء لا يمتنعون من إطلاق الإحاطة على معنى العلم ، ويقولون : الرب تعالى يعلم على الحقيقة ولا يحاط به ، ويرى ولا يدرك ، ثم ليس في الآية نفي جواز الإدراك ، وهو موضع الاختلاف الراجع إلى مدارك العقول.
ثم هذه الآية مطلقة غير مختصة بالأوقات ، وهي عامة فيها ، والآية التي استدللنا بها تنص على إثبات الرؤية في أوقات معلومة ، فيتجه في طرق التأويل حمل المطلق على المقيد ، فيحمل نفي الإدراك على أيام الدنيا.
وإن عارضونا بقوله تعالى في جواب موسى عليهالسلام : (لَنْ تَرانِي) [سورة الأعراف : ١٤٣] ، فهذه الآية من أصدق الأدلة على ثبوت جواز الرؤية ؛ فإن من اصطفاه الله لرسالته ، واختاره واجتباه