لنبوءته ، وخصصه بتكريمه وشرّفه بتكليمه ، يستحيل أن يجهل من حكم ربه ما يدركه حثالة المعتزلة.
ومن نفى الرؤية نسب مثبت جوازها إما إلى ثبوت ما يقتضي تكفيرا ، وإما إلى ثبوت ما يقتضي تضليلا ، والأنبياء عليهمالسلام مبرّءون عن ذلك ، كيف وقد ذهب مخالفونا إلى وجوب عصمتهم عن جميع الزلل!
فإن قال منهم قائل : إنما سأل موسى عليهالسلام علما ضروريا ، وعبر عنه بالرؤية ، قيل له : الرؤية المقرونة بالنظر الموصول «بإلى» ، نص في الرؤية.
ثم الجواب يحمل على حسب الخطاب ، فما بال المعتزلة حملوا : (لَنْ تَرانِي) على نفي الرؤية ، وحملوا السؤال في صدر الآية على غير الرؤية؟
وإن قال منهم قائل : إنما سأل الرؤية لقومه قطعا لمعاذيرهم ، إذ كانوا يسألونه أن يريهم الله جهرة ، قيل له : هذا مخالفة للنص ، فإنه عليهالسلام أضاف الرؤية المسئولة إلى نفسه ، حيث قال : (أَرِنِي).
ثم كيف يظن بالكليم أن يسأل ربه ما يعلم استحالته في حكمه تعالى لأجل قومه! ولما سألوه وقد جاوزوا البحر أن يجعل لهم إلها ، قال في الرّد عليهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [سورة الأعراف : ١٣٨].
وقد ذهبت شرذمة من المعتزلة ، إلى أن موسى عليهالسلام كان يعتقد جواز الرؤية غالطا ، فأعلمه الله تعالى أنه لا يجوز ذلك ، وتلك عظيمة ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وهو من أعظم الازدراء بالأنبياء. ولو جاز ذلك ، لجاز أن يعتقد نبي كون ربه جسما غالطا ، ثم يعلمه الله ويلهمه الصواب.
فإن تبين أن سؤال موسى عليهالسلام دال على جواز ما سئل عنه ، ثم سؤاله كان عن رؤية في الحال ، فلا يقدح في النبوّة ذهول النبي عليه الصلاة والسلام عن علم الغيب. فكان صلىاللهعليهوسلم يظن ما اعتقده جائزا ناجزا ، فأعلمه الرب تعالى مكنون غيبه. ثم سؤاله كان عن رؤية في الحال ، فتعيّن حمل النفي على موضع السؤال.
فصل
فإن قيل : قدمتم أن كل إدراك فإنه متعلق جوازا بكل موجود ، وقود ذلك يلزمكم تجويز تعلق الإدراكات الخمسة بذات الباري وصفاته ، وملتزم ذلك ينتهي إلى الحكم بكون الرب تعالى مشموما ملموسا مذوقا. قلنا : قد ذكرنا أن اللمس والذوق والشمّ عبارات عن اتصالات ، وليست هي الإدراكات. فأما الإدراكات ، مع القطع باستحالة الاتصال ، فيجوز تعلقها بكل موجود ، وكل دال على جواز رؤية كل موجود ، يطرد في جميع الإدراكات.
فإن قيل : قد قدمتم في الصفات الواجبة ، أن الرب تعالى سميع بصير ، وأثبتم العلم بالسمع