فإن قالوا : قد ذكرتم عند الكلام في إثبات العلم بكونه تعالى عالما ، أن ذلك إنما يعلم اضطرارا ولا يتوصل إليه نظرا واعتبارا ، فهذا ما ارتضيتموه. ثم هو مناقض لما استروحتم إليه الآن. من حيث قلتم : الفعل المحكم دال على كون مخترعه عالما به ؛ قلنا : هذا تلبيس منكم ، ولا تناقض في الجمع بين ما قدمناه وبين ما استدللنا به الآن ؛ فإنا ، وإن قلنا : نعلم أن المحكم لا يصدر إلا من عالم على الضرورة ، فحقيقة القول يؤول إلى أن المحكم دليل على كون فاعله عالما به ، من غير احتياج إلى نظر في كونه دليلا. وكأن الأدلة تنقسم : فمنها ما لا يعلم كونه دليلا إلا بالنظر ، ومنها ما يعلم كونه دليلا على الضرورة ؛ والذي نحن فيه من القسم الأخير ، ولا معنى لكون الشيء دليلا على مدلول إلا أن يكون بحيث يجب من العلم به العلم بمدلوله ، وهذا سبيل المحكم الدال على علم محكمه. وهذا الكلام في الضرب الأول.
فأما الضرب الثاني ، وهو التعرض لإلزامهم ، فإنه يشتمل على قواطع لا محيص عنها. فمن أقواها ، أن القدرة الحادثة على أصولهم تتعلق بالوجود دون غيره من الصفات ، ثم حقيقة الوجود لكل حادث لا تختلف ، واختلاف المختلفات يؤول إلى أحوالها الزائدة على وجودها ، وليست هي أثرا للقدرة. ومن أصول القوم أن القدرة المتعلقة بالشيء تتعلق بأمثاله وأضداده ، والموجودات مشتركة في حقيقة ما هو متعلق القدرة ، فيجب تعلق القدرة الحادثة بجميع الحوادث كالطعوم والألوان والجواهر. كما يجب عندهم تعلق القدرة على حركة بجميع ما يماثلها ، ولا محيص لهم عن ذلك.
فإن قالوا : ما ألزمتمونا في الاختراع ينقلب عليكم في تعلق القدرة كسبا ، وإذا تعلقت القدرة بنوع من الأعراض لزمكم ما ألزمتمونا تجويز تعلقها بجميع الحوادث ، وإن لم تلزموا ما عكس عليكم لم يستمر ما ألزمتموه ؛ قلنا : القدرة الحادثة لا تتعلق عندنا بمحض الوجود ، بل تتعلق بالذات وأحوالها ، والذوات مختلفة بأحوالها فلا يلزمنا من حكمنا بتعلق القدرة بشيء الحكم بجواز تعلقها بما يخالفه. وإنما عظم موقع هذا الكلام على المعتزلة من حيث قالوا : لا تتعلق القدرة إلا بالوجود ، ثم الوجود في حقيقته لا يختلف.
ومما يعظم موقعه عليهم ، أنهم قالوا : القدرة الحادثة لا يتأتى بها إعادة ما اخترع بها أولا ، ومعلوم أن الإعادة بمثابة النشأة الأولى. ولذلك استدل الإسلاميون على اقتدار الرب على الإعادة باقتداره على ابتداء الفطرة ، وقد نطق بذلك الكتاب ، واحتج الرب على منكري الإعادة بالنشأة الأولى.
فإذا اعترفت المعتزلة بأن القدرة الحادثة لا تصلح لإعادة ما يجوز في العقل إعادته على الجملة ، فكذلك ينبغي أن لا تصلح لابتداء الخلق. وإن ألزمونا تعلق القدرة الحادثة بالمعاد ، التزمناه ولم نبعده ؛ فإذا أعاد الله ما كان مقدورا للعبد ، فيجوز أن يعيد قدرته عليه.