ومما نلزمهم به أن نقول : قد وافقتمونا على أن ما عدا الوجود من صفات الأفعال لا يقع بالقدرة الحادثة ، مع أنها متجددة ، كما أن الوجود متجدد ، فما الفصل بين الوجود وبين الصفة الزائدة عليه؟
فإن قالوا : إذا ثبت وجود الحركة ، وجب عند ثبوت وجودها ثبوت أحكام لها ، والقدرة إنما تؤثر في الجائز دون الواجب ، والصفات التابعة للوجود واجبة ؛ فلم تؤثر القدرة فيها؟ قلنا : لا معنى لوجوبها ، إذ يجوز تقدير انتفائها أصلا إذا انتفى الوجود.
فإن قالوا : المعنى بوجوبها أنها إنما تجب عند ثبوت الوجود ، قلنا : وكذلك يجب الوجود عند ثبوتها ؛ فإنه كما يستحيل ثبوت الحدوث دون الصفات التابعة له ، فكذلك يستحيل ثبوت الصفات التابعة له دون الحدوث ، ولا محيص عن ذلك. فهذه إلزامات لا حيلة للخصوم في دفعها.
فأما الضرب الثالث من الكلام ، فالغرض منه التعلق بالأدلة السمعية ؛ وهي تنقسم إلى ما يتلقى من مواقع إجماع الأمة ، وإلى ما يستفاد من نصوص الكتاب.
فأما ما يتلقى من إطلاق الأمة فأوجه : منها أن الأمة مجمعة على الابتهال إلى الله تعالى وإبداء الرغبة إليه في أن يرزقهم الإيمان والإيقان ويجنبهم الكفر والفسوق والعصيان ، ولو كانت المعارف غير مقدورة للباري تعالى ، لكانت هذه الدعوة الشائعة والرغبة الذائعة ، متعلقة بسؤال ما لا يقدر الباري عليه.
فإن قالوا : هذه الرغبة محمولة على سؤال الإقدار على الإيمان والإعانة عليه بخلق القدرة ، قلنا : هذا غير سديد على أصولكم ؛ فإن كل مكلف قادر على الإيمان ، والرب تعالى لا يسلبه الاقتدار عليه ، فلا وجه لحمل الدعاء على ابتغاء موجود ، إذ الداعي يلتمس متوقعا مفقودا.
ثم السلف الصالحون كما سألوا الله تعالى الإيمان ، كذلك سألوه أن يجنبهم الكفر ، والقدرة على الإيمان قدرة على الكفر على أصول المعتزلة ؛ فلئن كان الرب معينا على الإيمان بخلق القدرة عليه ، فيجب أن يكون معينا على الكفر بخلق القدرة عليه. ويقوي موقع ذلك على الخصم ، إذا فرضنا الكلام فيمن علم الله منه أنه إذا أقدره كفر ؛ فإذا أقدره والحالة هذه ، فهو بالإعانة على الكفر أحق منه بالإعانة على الإيمان.
ومن دعوات النبيين في ذلك قول إبراهيم وابنه إسماعيل ، صلوات الله عليهما : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [سورة البقرة : ١٢٨] الآية. ومنها قول إبراهيم عليهالسلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [سورة إبراهيم : ٣٥].
ومما نتمسك به ، تلقيا من إطلاق الأمة وإجماع الأئمة ، أن المسلمين قبل أن تنبغ القدرية كانوا مجمعين على أن الرب تعالى مالك كل مخلوق ، ورب كل محدث.