فاعلم ذلك ، واقطع بأن من قال : العبد عاجز عن الأجسام والألوان ، فهو متجوز. والمراد بالعجز المتجوز به انتفاء القدرة ، وهذا كما أن الجهل ضرب من الاعتقاد. وقد يسمى الغافل عن الشيء جاهلا به ، وإن لم يكن معتقدا شيئا ؛ فيخرج من ذلك أن المضطر إلى رعدته عاجز عنها معها ، كما أن المتحرك على اختيار قادر على حركته مع حركته.
فصل
القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بمقدور واحد ، وقد ذهبت المعتزلة إلى أن القدرة تتعلق بالمضادات ، وذهب الأكثرون منهم إلى تعلقها بالمختلفات التي لا تتضاد. ثم أصلهم أن القدرة الحادثة تتعلق بما لا نهاية له من المقدورات على تعاقب الأوقات. وهم متفقون على أن القدرة الواحدة لا يتأتى بها إيقاع مثلين ، في محل واحد جميعا في وقت واحد وإنما يقع مثلان كذلك بالقدرتين. فإن كثرت أعداد الأمثال ، مع اتحاد المحل والوقت ، كثرت القدر على عدتها.
والأولى بنا بناء هذه المسألة على التي قبلها ، فنقول في منع تعلق القدرة الحادثة بالضدين : لو تعلقت بهما لقارنتهما ، ومن ضرورة ذلك اقترانهما ، وهو باطل على الضرورة. فإن استحالة اجتماع الضدين مدركة بالبداية ، وإن فرضنا الكلام في المختلفات التي لا تتضاد قلنا : لو تعلقت قدرة واحدة بكل ما يصح أن يكون مقدورا للعبد ، لوجب أن تكون القدرة القادرة على الدبيب قادرة على اكتساب جميع العلوم والإرادات ونحوها من المقدورات. وهذا مما يعلم بطلانه ، ويستغني فيه عن سبر نظر وتقسيم فكر. ثم البناء على المسألة المتقدمة يطرد في هذا الطرف.
فنقول : للمخالفين إذا حكمتم بأن القدرة الواحدة تتعلق بالضدين ، فلم يختص أحد الضدين بالوقوع بالقدرة بدلا عن الثاني؟ فإن قالوا : إنما يقع من الضدين ما تجرد القصد إليه ، ولذلك يختص بالوقوع ، فهذا باطل من وجهين : أحدهما أن الغافل والنائم قد يقع منهما أحد الضدين من غير إرادة ، وصلاح القدرة للواقع كصلاحها للذي لم يقع : والوجه الثاني ، أن نقول : إذا وقعت الإرادة مقدورة ، والكراهية التي هي ضد لها مقدورة أيضا ، فما بال الإرادة اختصت بالوقوع ، والإرادة لا تراد عند كم؟ ولا مخلص للمعتزلة من هذا المضيق والواقع عندنا مقدور ، ولذلك وقع بخلق القدرة عليه ، مع القطع بأنها لا تصلح لغير ما وقع.
ومما ألزم المعتزلة في ذلك ، أن يقال لهم : الغفلة تضاد العلم ؛ ولذلك يعدم العلم عندكم بطريان الغفلة كما يعدم السواد بطريان البياض ، فيجب أن يكون القادر على العلم بالشيء قادرا على الغفلة عنه ، ومعلوم قطعا أن الغفلة غير مقدورة. وللمعتزلة في ذلك خبط لا يحتمل هذا المعتقد ذكره.
فإن قالوا : سبيل القادر أن يتخير بين الإقدام على الشيء والانفكاك عنه ، وإنما يتحقق ذلك