فقال لها : قاتلك الله ، ما أفصحك فقالت : أو يعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧]. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وفي حديث إسلام أبي ذر ، وصف أخاه أنيسا فقال : والله ، ما سمعت بأشعر من أخي أنيس. لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية أنا أحدهم. وإنه انطلق إلى مكة وجاءني ، قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر كاهن ساحر. ثم قال لقد سمعت ما قال الكهنة ، فما هو قولهم ولقد وضعته على إقراء الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر وأنه لصادق وأنهم لكاذبون. وروي في الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقرأ في المغرب بالطور [٣٥ ـ ٣٧] ، فلما بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وقد حكي أن ابن المقنع طلب معارضة القرآن وشرع فيه ، فمرّ بصبي يقرأ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤]. فرجع ، فمحا ما عمل ، وقال : أشهد أن هذا لا يعارض وما هو من كلام البشر. وكان يحيى بن حكم الغزالي بليغ الأندلس في زمنه ، فحكى أنه رام شيئا من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليأتي على أسلوبها وينظم الكلام على منوالها ، قال : فاعترتني منه خشية ورقة حملتني على التوبة والإنابة. وقال الناظم من المعتزلة : إعجاز القرآن بالصرف على المعنى ، أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل مبعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لكن الله صرفهم عن معارضته بسبب الدواعي بعد المبعث ، فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزا. فهو أيضا يسلم أن القرآن معجز لأجل الصرف ، ومثله غير مقدور لهم بعد المبعث ، وإنما نزاعه في كونه مقدورا قبل المبعث وقوله غير صحيح بوجوه : الأول : انه لو كان كذا لعارضوا القرآن بالكلام الذي صدر عنهم قبل المبعث ويكون مثل القرآن. الثاني : ان فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته لا لعدم تأتّي المعارضة مع سهولتها في نفسها. الثالث : انه لو قصد الإعجاز بالصرف لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته ، لأن القرآن ، على هذا التقدير ، كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة. والرابع : يأباه قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].
فإن قيل إن فصحاء العرب لما كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها