الوجه الخامس : وقع في الآية الثانية والعشرين من الباب السابع من سفر الاستثناء هكذا : «فهو يهلك هذه الأمم من قدّامك قليلا قليلا وقسمة قسمة. إنك لا تستطيع أن تبيدهم بمرّة واحدة لئلا يكثر عليك دواب البرّ». وقد ثبت أن طول فلسطين كان بقدر مائتي ميل وعرضه بقدر تسعين ميلا ، كما صرّح به صاحب مرشد الطالبين في الفصل العاشر من كتابه في الصفحة (٥١) من النسخة المطبوعة سنة ١٨٤٠ في مدينة فالته. فلو كان عدد بني إسرائيل قريبا من ألفي ألف وخمسمائة ألف وكانوا متسلّطين على فلسطين مرة واحدة بعد إهلاك أهلها ، لما يكثر عليهم دواب البرّ ، لأن الأقل من هذا القدر يكفي لعمارة المملكة التي تكون بالقدر المذكور. وقد أنكر ابن خلدون أيضا هذا العدد في مقدمة تاريخه وقال : «الذي بين موسى وإسرائيل إنما هو ثلاثة آباء ، على ما ذكره المحقّقون ، ويبعد إلى أن ينشعب النّسل في أربعة أجيال إلى مثل ذلك العدد». انتهى كلامه. فالحقّ أن كثرة بني إسرائيل كانت بالقدر الذي يمكن في مدة مائتين وخمس عشرة سنة ، وكان سلطان مصر قادرا عليهم أن يظلم بأيّ وجه شاء ، وكان الأمر اللساني الصادر عن موسى عليهالسلام كافيا لارتحالهم كل يوم ، وكان يكفي حوالى طور سيناء وحوالى إيليم لنزولهم مع دوابّهم ، وكان لا يكفي قدرهم لعمارة فلسطين لو ثبت لهم التسلّط مرة واحدة. فيظهر لك من الأدلة المذكورة أنه ليس في أيدي أهل الكتاب سند لكون الكتب الخمسة من تصنيف موسى عليهالسلام. فما دام لم يثبت سند من جانبهم فليس علينا تسليم هذه الكتب ، بل يجوز لنا الردّ والإنكار.
وإذا عرفت حال التوراة الذي هو رأس الملّة الإسرائيلية ، فاسمع حال كتاب يوشع الذي هو في المنزلة الثانية من التوراة. فأقول : لم يظهر لهم إلى الآن بالجزم اسم مصنّفه ، ولا زمان تصنيفه ، وافترقوا إلى خمسة أقوال. قال جرهارد وديوديتي وهيوت وپاتريك وتاملاين وداكتر كري : إنه تصنيف يوشع. وقال داكتر لائت فت : إنه تصنيف فنيحاس. وقال كالون : إنه تصنيف العازر. وقال وانتل : إنه تصنيف صموئيل. وقال هنري : إنه تصنيف أرميا. فانظر إلى اختلافهم الفاحش. وبين يوشع وأرميا مدة ثمانمائة وخمسين سنة تخمينا. ووقوع هذا الاختلاف الفاحش دليل كامل على عدم استناد هذا الكتاب عندهم ، وعلى أن كل قائل منهم يقول بمجرد الظن رجما بالغيب بلحاظ بعض القرائن الذي ظهر له أن مصنّفه فلان ، وهذا الظن هو سند عندهم. ولو لاحظنا الآية الثالثة والستّين من الباب الخامس عشر من هذا الكتاب مع الآية السادسة والسابعة والثامنة من الباب الخامس من سفر صموئيل الثاني ، يظهر أن هذا الكتاب كتب قبل السنة السابعة من جلوس داود عليهالسلام. ولذلك قال جامعو تفسير هنري واسكات ذيل شرح الآية الثالثة والستّين المذكورة هكذا : «يعلم من هذه الآية أن كتاب يوشع كتب قبل السنة السابعة من جلوس داود عليهالسلام». انتهى. وتدلّ الآية الثالثة