ومنهم من قال مكان الجسم هى الأبعاد التى من غاياته.
ومنهم من قال : المكان هو السطح الباطن للجسم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى عليه : كالسطح الباطن من الكون المماس للسطح الظاهر من الماء الّذي هو فيه ؛ وهو عرض.
ومنهم من قال : المكان هو الخلاء ، وفى هذه المذاهب نظر.
أما المذهب الأول : فإنه يوجب أن لا يكون السهم النافذ فى الهواء الطائر فيما بين السماء والأرض. وكذلك الحجر المتحرك بالقسر إلى جهة فوق فى مكان إذ ليس له فى تلك الحالة موضع يستقر عليه ؛ وهو ممتنع.
فإنا نشاهده متحركا ، متنقلا ، والحركة لا بد وأن تكون عن شيء ، إلى شيء وما عنه الانتقال وإليه ؛ هو المكان كما سبق فى الفصل الّذي قبله (١).
ولهذا يصح أن يقال : إنه متنقل من مكان إلى مكان.
وأما المذهب الثانى ، والثالث : وهما القائلان بأن مكان الجسم هيولاه أو صورته فمبنى على أن الجسم مركب من الهيولى والصورة ، وقد أبطلناه (٢).
وإن سلم أن الجسم مركب من الهيولى والصورة ؛ فيمتنع أن يكون كل واحد منهما مكانا للجسم ؛ وبيانه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كل واحد منهما جزء من الجسم ؛ والشيء لا يكون فى جزئه.
الثانى : أن الجزء من الكل داخل فى مكان الكل ، فلو كان الجزء هو مكانا للكل ؛ لكان الشيء الواحد مكانا لنفسه ، ومتمكنا فيه ؛ وهو محال.
الثالث : أنه يمكن أن يقال بانتقال الجسم عن مكانه وإن كانت المادة والصورة من الجسم بحالهما ، وليس يلزم من الاشتراك المكان والهيولى فى إمكان التعاقب عليهما أن يكون هيولى الجسم مكانا ، وإلا لامتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد.
__________________
(١) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ٤٩ / ب وما بعدها.
(٢) راجع ما مر ل ١٨ / ب وما بعدها. الفصل الأول : فى تحقيق معنى الجسم.