وأما ما لا يكون من هذا القبيل : كنظرة ، أو كلمة سفه نادرة فى خصام ، ونحو ذلك ؛ فهذا مما اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمدا أو سهوا ، خلافا للشيعة.
وذهب الجبائى : إلى أن ذلك لا يجوز إلا بطريق السهو ، أو الخطأ فى التأويل.
وذهب النظام ، وجعفر بن مبشر : إلى أن ذلك لا يجوز منهم إلا على طريق الغفلة ، والسهو. غير أنهم يؤاخذون بذلك وإن لم تؤاخذ أممهم به ؛ لعلو رتبتهم ، وقوة معرفتهم بالله ـ تعالى.
وهل يجوز أن يخلع الله ـ تعالى ـ نبيا من نبوته. فقد اتفق أصحابنا على جوازه عقلا ، غير أن المسلمين اتفقوا على أن ذلك لم يقع. وما يروى أن بلعام بن باعور (١) كان نبيا وخلع من نبوته ، فلم يثبت ولم يصح.
__________________
(١) بلعام بن باعور : وقيل (بلعم) وقد وردت فى شأنه روايات مختلفة تصل إلى درجة التناقض. فيقول ابن حزم (الفصل فى الملل والأهواء والنحل ١ / ١٧٩) «كما كان أيوب نبيا فى (بنى عيص). وكما كان (بلعام) نبيا فى (بنى موآب) بإقرار من جميع فرق اليهود».
كما أشار الطبرى فى تفسيره الجزء التاسع ص ٧٦ وما بعدها ، إلى أنه كان يدعى (بلعم) بفتح الباء أو بضمها من بنى إسرائيل. وقد ذكره القرطبى فى تفسيره للآيات الكريمة من سورة الأعراف من أول قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) إلى قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) سورة الأعراف ٧ / ١٧٥ ـ ١٧٧ ـ [تفسير القرطبى ٤ / ٢٧٥٥ ـ ٢٧٦٠].
«ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها فى التوراة. واختلف فى تعيين الّذي أوتى الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس : هو بلعام بن باعوراء ، ويقال ناعم من بنى إسرائيل فى زمن موسى ـ عليهالسلام ـ وكان بحيث إذا نظر رأى العرش وهو المعنى بقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) ولم يقل آية وكان فى مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا «أن ليس للعالم صانع».
قال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ؛ ليدعوه إلى الإيمان فأعطاه وأقطعه ؛ فاتبع دينه ، وترك دين موسى ، ففيه نزلت هذه الآيات.
المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : كان بلعام قد أوتى النبوة ؛ وكان مجاب الدعوة.
وقال عكرمة : كان بلعام نبيا وأوتى كتابا ، وقال مجاهد أنه أوتى النبوة ؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردى : وهذا غير صحيح ؛ لأن الله تعالى لا يصطفى لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.
أما الفخر الرازى فى تفسيره (١٥ / ٥٧ ـ ٦١) فيستبعد ما نقل عن بلعام بعد نقله ويقول : «هذا بعيد لأنه تعالى قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ لا يشرّف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف ، والدرجات العالية ، والمناقب العظيمة ؛ فمن كان هذا حاله ، فكيف يليق به الكفر؟».
وأما عبد القاهر البغدادى فينفى عنه النبوة ويثبت له الكرامة فى كتابيه أصول الدين ، والفرق بين الفرق. ففى أصول الدين ص ١٧٤ ، ١٧٥ «وصاحب الكرامة لا يؤمن تبدل حاله فإن بلعم بن باعورا أوتى من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء». وفى الفرق بين الفرق ص ٣٤٤ «وصاحب الكرامة لا يأمن تغير عاقبته كما تغيرت عاقبة بلعم بن باعورا بعد ظهور كراماته».
وهذا يوافق ما قاله الآمدي : «وما يروى أن بلعام بن باعور كان نبيا وخلع من نبوته ؛ فلم يثبت ولم يصح».