احتج أهل الحق على الجواز العقلىّ بأن قالوا : قد بيّنا أنه لا معنى للنّبوّة غير قول الله ـ تعالى ـ لمن اصطفاه أرسلتك فبلّغ عنى ولا يخفى جواز ذلك عقلا. ولهذا فإنا لو فرضنا وقوع ذلك ، أو عدمه لم يعرض عنه المحال لذاته. ولا معنى للجائز الا هذا.
واحتجّ القائلون بالوجوب (١) بأنه لمّا كان نوع الإنسان أشرف موجود فى عالم الكون والفساد ؛ لكونه مختصا بالنفس النّاطقة القريبة الشّبه من المبادئ الأول ؛ لم يكن فى العقل بدّ من شمول لطف المبدأ الأول به وإفاضة الجود منه عليه ؛ ليتمّ له المعيشة فى الدّنيا ، والسّعادة الأبديّة فى الأخرى.
ولا يخفى أن كل واحد من أشخاص نوع الانسان قلّ ما يستقلّ بنفسه فى تحصيل أغراضه الدّنيويّة ؛ ومقاصده الأخروية دون معين ومساعد له من نوعه.
وعند ذلك فلا بد / / لهم من معاملات فيما بينهم كبيوعات ، واجارات ومناكحات إلى غير ذلك مما تتعلّق به الحاجات ، وذلك لا يتم إلا بانقياد البعض للبعض ، وقل ما يحصل الانقياد من المرء لصاحبه بنفسه مع قطع النظر عن محرّمات ، ومرغبات دنيوية ، وأخروية ، وسنن يسنون بها ، وشرائع يقتدون بها ، وذلك كله إنّما يتمّ ببيان ومشرّع يخاطبهم من نوعهم وفاء بموجب عناية المبدأ الأوّل بهم.
ثم يجب أن يكون هذا الإنسان المشرّع مؤيّدا من عند الله ـ تعالى ـ بالمعجزات ، والأفعال الخارقة للعادات. التى تتقاصر عنها قوى غيره من نوعه بحيث يكون ذلك موجبا لقبول قوله ، والانقياد له فيما يسنّه ، ويشرعه ، ويدعوا به إلى الله ـ تعالى ، وإلى عبادته والانقياد لطاعته ، وما ينبه عليه من وجوب وجوده وما يجوز عليه وما لا يجوز وأحكام المعاد ، والمعاش ؛ ليتمّ لهم النّظام. وذلك كله فالعقل يوجبه ؛ لكونه حسنا ، ويحرّم انتفاءه ؛ لكونه قبيحا.
__________________
وهو إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم عليهالسلام. وهو أول من أعطى النبوة بعد آدم وشيث عليهماالسلام وذكر ابن اسحاق أنه أول من خط بالقلم.
وقد اختلف العلماء فى مولده ونشأته فقال بعضهم إن ادريس ولد ببابل وقال آخرون إنه ولد بمصر. والأرجح أنه ولد ببابل. ولما أرسله الله إلى البابليين لم يتبعه إلا نفر قليل وخالفه الجم الخفير فنوى الرحلة إلى مصر ؛ ولكن ثقل على أتباعه ذلك وقالوا : وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل. فقال : إذا هاجرنا لله رزقنا غيره. فخرجوا إلى أرض مصر فرأوا النيل فوقفوا عليه وسبحوا الله ، وأقام ادريس ومن معه يدعوا الناس إلى الله وإلى مكارم الأخلاق.
[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٦٢ ـ ٦٤ ، والنبوة والأنبياء للشيخ محمد على الصابونى ص ٢٢٣ ، ٢٢٤. ط ٢ بمكة المكرمة سنة ١٩٨٠ م].
(١) القائلون بوجوب البعثة هم الفلاسفة ، وبعض المعتزلة كما مر.
/ / أول ل ٧٢ / أ.