وأما اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام : فمن ذلك ما روى عن أم (١) سليم أنها كانت قد هيأت لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أقراصا من شعير ، وعليها قليل من السّمن ، وأنّها أرسلت أبا طلحة (٢) وقالت له : أدع رسول الله ولا تدع معه أحدا ؛ فلما أتى وهو فى جمع من الصحابة ، قال له النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لعلك أرسلت إلينا فقال نعم ؛ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ للقوم انطلقوا بنا ، فانطلقوا معه وهم ثمانون رجلا ، ولم يزالوا يأكلون من ذلك / عشرة بعد عشرة حتى تحشوا شبعا إلى تمام الثمانين ، وروى أن المتخذ كان قرصا واحدا (٣).
ومن هذا الباب ما روته عائشة (٤) ـ رضى الله عنها ـ أن سائلا سأل النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ
__________________
(١) أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام. أم أنس بن مالك رضي الله عنه بعد مقتل زوجها تزوجت من أبى طلحة رضي الله عنه ولزواجهما قصة يرويها أنس رضى الله عنه قال : خطب أبو طلحة أم سليم فقالت : ما مثلك يرد ؛ ولكن لا يحل أن أتزوجك وأنا مسلمة وأنت كافر ؛ فإن تسلم فذاك مهرى لا أسألك غيره ؛ فأسلم فتزوجها قال ثابت : فما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم : الإسلام. وعنه أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه ؛ فقيل له : فقال : إنى أرحمها قتل أخوها معى. ـ رضى الله عنهم ـ (انظر ترجمة زوجها فى نفس الهامش) وللخريد انظر : صفة الصفوة للإمام ابن الجوزى ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٨.
(٢) أبو طلحة : زيد بن سهل بن الأسود النجارى الأنصارى : صحابى جليل من الشجعان الرماة المعدودين فى الجاهلية والإسلام. ولد بيثرب سنة ٣٦ قبل الهجرة ، ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره فشهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وكان جهير الصوت ، وفى الحديث : لصوت أبى طلحة فى الجيش خير من ألف رجل ، وتوفى ـ رضي الله عنه ـ سنة ٣٤ ه.
(صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١٧٨ ، ١٧٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٥٨ ، ٥٩).
(٣) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم صحيحها : صحيح البخارى ٦ / ٦٧٨ كتاب المناقب باب علامات النبوة فى الإسلام. (ح رقم ٣٥٧٨) «حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول" «قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟ قالت : نعم فأخرجت أقراصا من شعير .... فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم فقالت : الله ورسوله أعلم.
فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فأقبل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأبو طلحة معه فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هلمى يا أم سليم ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ففتّ ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته. ثم قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة ، فإذن لهم .... والقوم سبعون أو ثمانون رجلا».
وأخرجه مسلم فى صحيحه (٣ / ١٦١٢ ح ٢٠٤٠) كتاب الأشربة. باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ... واستحباب الاجتماع على الطعام ، حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك بن أنس إلى آخر طريق البخارى ولفظه. كما أخرجه الإمام الترمذي فى سننه كتاب المناقب ٥ / ٥٩٥ ح رقم ٣٦٣٠ وقال : هذا حديث حسن صحيح.
(٤) عائشة رضى الله عنها : عائشة بنت أبى بكر الصديق أم المؤمنين أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين ، تزوجها النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فى السنة الثانية بعد الهجرة ؛ فكانت أحب نسائه إليه ، وأكثرهن رواية للحديث عنه. وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض فتجيبهم. وكان (مسروق) إذا روى عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق روى عنها ٢٢١٠ أحاديث.
ولدت بمكة قبل الهجرة بتسعة أعوام وتوفيت بالمدينة المنورة سنة ٥٨ ه (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٠١ ـ ٣١٢ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٤٠).