«ادعوا لي المقداد ، يا مقداد : أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» قال : فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمقداد : «كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل».
وقوله : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) أي خير مما رغبتم فيه عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام ، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا ، وكما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٢٦] ، وهذا مذهب سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تخفون إيمانكم في المشركين ، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن أبي حاتم ، وذكر عن قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : قوله (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) لم تكونوا مؤمنين (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول : لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فيه ، وقوله : (فَتَبَيَّنُوا) تأكيد لما تقدم ، وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد.
(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)
قال البخاري (١) : حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء ، قال لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم زيدا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته ، فأنزل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، حدثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ، قال : لما نزلت (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال النبيصلىاللهعليهوسلم ادع فلانا ، فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال اكتب (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
__________________
(١) صحيح البخاري (تفسير سورة النساء باب ١٦)