فرارا عن الحق وإعراضا عنه وتكذيبا له ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، ولهذا قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار ، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم ، فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وبيده الأمر ، وإليه ترجع الأمور (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوك ويكبتهم ، ويجعلهم أسفل السافلين.
قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : بعث نوح وهو لأربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. وقال قتادة : يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاما لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ، ودعاهم ثلاثمائة سنة ، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين عاما ، وهذا قول غريب ، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما. وقال عون بن أبي شداد : إن الله تعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة ، وهذا أيضا غريب ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقول ابن عباس أقرب ، والله أعلم.
وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال : قال لي ابن عمر : كم لبث نوح في قومه؟ قال : قلت ألف سنة إلا خمسين عاما ، قال : فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي الذين آمنوا بنوح عليهالسلام ، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلا في سورة هود ، وتقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته.
وقوله تعالى : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها ، كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ـ إلى قوله ـ وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [يس : ٤١ ـ ٤٤] وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١١ ـ ١٢] وقال هاهنا : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥٥] أي وجعلنا نوعها رجوما فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ