لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم من يطيع ممن يعصي ، ولهذا قال (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتل بك» (١) وفي المسند عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا.
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)
يقول تعالى مخبرا عن تعنت الكفار في كفرهم ، وعنادهم في قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء ، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله ، كقولهم (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان ، ولهذا قالوا : (أَوْ نَرى رَبَّنا) ولهذا قال الله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [الأنعام : ١١١] الآية.
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم ، بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم ، وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار ، والغضب من الجبار ، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه ، اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث ، اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه ، كما قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] الآية ، وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.