يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧].
وقوله عزوجل هاهنا : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر ، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ، ليصير حائلا بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم ، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنا وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركا ولا يخشى ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) كهيئته وامضه (١) ، وقال مجاهد : رهوا طريقا يبسا كهيئته. يقول : لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم ، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد ، وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد.
ثم قال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين (وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ) والمراد بها الأنهار والآبار (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) المنابر ، وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له ، فإذا أراد الله عزوجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها ، وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيونا ، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره ، وقال في قول الله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) قال : كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعا ، ما بين أسوان إلى رشيد ، وكان له تسع خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعا لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.
(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير ، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء: ٥٩]. وقال في هذه الآية الأخرى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧].
__________________
(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٣٥.