بحر أو برد ، ولا يوجد طائر أو حيوان أو ما شابه ذلك يعكّر عليه هدوءه ، فلا طائر يصدح ، ولا غراب ينعب ، ولا حيوان يصيح ، ولا حفيف شجر ولا تساقط ورق ، ولا ... ، فلا يلامس أعضاءه شيء أبداً.
فإنّ الإنسان في الحالة المذكورة يغفل عن كلّ أعضائه الظاهرة والباطنة ، وكونه جسماً ذا أبعاد ، وحواسّه وقواه ، والأشياء الخارجة عنه جميعاً ، كلّ ذلك يغفل عنه ، ولكنّه لا يغفل عن شيء واحد رغم ذلك كلّه ، وهذا الشيء هو ثبوت ذاته ، فإذاً أوّل الإدراكات على الإطلاق وأوضحها هو إدراك الإنسان نفسه ، وظاهر انّ مثل هذا الإدراك لا يمكن أن يكتسب بحد أو رسم (أي من خلال التعريف) ، أو يثبت بحجة أو برهان. (١)
والحقيقة انّ هذا البرهان لا يحتاج في تقريره إلى كلّ هذه المقدّمات الواسعة ، بل يمكن إثباته بصورة مختصرة ، فأنت ترى الإنسان قد يغرق أحياناً في التفكير والتأمّل بنحو يغفل عن كلّ شيء إلى درجة قد لا يلتفت ولا ينتبه إلى حوادث مهمة جداً تقع إلى جانبه ، ولكنّه مع كلّ ذلك لا يغفل عن شيء واحد ، وهو شخصيته العلمية وتفكيره وانّه إنسان مفكّر وهذه المسألة تحكي أنّ حقيقة الإنسان وواقعه شيء وراء البدن والأعضاء المادية ، التي طالما يغفل عنها ولا يلتفت إليها.
٤. الروح من وجهة الدراسات والبحوث العلمية الحديثة
إلى هنا تعرّفنا على وجود حقيقة تكمن وراء البدن يطلق عليها مفهوم «الروح».
__________________
(١) الإشارات والتنبيهات : ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، بتصرّف في العبارة ؛ وانظر الشفاء قسم الطبيعيات : ٢٨٢.