حقيقة الكسب :
اعلم ، أن الكسب كل فعل يستجلب به نفع ، أو يستدفع به ضرر. يدلك على ذلك ، هو أن العرب إذا اعتقدوا في فعل أنه يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر سموه كسبا ، ولهذا سموا هذه الحرف مكاسب ، والمتحرف بها كاسبا ، والجوارح من الطير كواسب.
ومتى قيل إن هذه حقيقة الكسب من طريق العربية ، وليس الكلام إلا في الكسب الاصطلاحي ، قلنا : الاصطلاح على ما لا يعقل غير ممكن ، لأن الشيء يعقل معناه أولا ، ثم إن لم يوجد له اسم في اللغة يصطلح عليه ، فأما والمعنى لم يثبت بعد ولم يعقل فلا وجه للاصطلاح عليه. وأيضا فلا بد من أن يكون للاصطلاح شبه بأصل الوضع ، ما يقوله مخالفونا لا شبه له بأصل الوضع. إذا ثبت هذا ، عدنا إلى الكلام على إفساد هذه المذاهب.
فأما مذهب جهم ، فقد دخل فساده تحت ما تقدم.
وأما الكلام على القائلين بالكسب ، فالأصل في أن تعلم أن فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :
أحدهما : بأن تبين فساده بالدلالة.
والثاني : بأن تبين أنه غير معقول في نفسه. وإذا ثبت أنه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه ، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن. وهذه الطريق هي التي سلكناها في فساد القول بالطبع والقول بالتثليث ، فقلنا للطبيعيين : إن مذهبكم في الطبع غير معقول ، وقلنا للنصارى : إن اعتقاد واحد ثلاثة مما لا يمكن ، ومذهبكم في ذلك مما لا يعقل ، والكلام عليه مما لا وجه له ، وبهذه الطريق يفسد القول بالكسب ، فإن ذلك غير معقول كما عددناه من المذاهب.
والذي يبين لك صحة ما نقوله ، أنه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبرة في ذلك ، من الزيدية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والإمامية ، والمعلوم أنهم لا يعقلونه. فلو لا أنه غير معقول في نفسه ، وإلا كان يجب أن يعقله هؤلاء ، فإن دواعيهم متوفرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه ، دل على أن ذلك مما لا