تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق افترقوا فرقتين :
فمنهم : من قال إن ذلك ليس بتكليف لما لا يطاق.
ومنهم : من جوز أن يكلف الله تعالى العبد ما لا يطيقه. وقال : إنه ليس في العقل قبحه ، وإنما المانع منه السمع. وفي هؤلاء من جوز ذلك على الله تعالى ، واستدل بقوله تعالى : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ) [البقرة : ٣١] قال إن الله تعالى كلفهم الإنباء مع أنهم لا يقدرون عليه ، وهو ابن أبي بشر المخذول وأصحابه.
والكلام عليهم هو أن نقول : كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح تكليف الزّمن بالمشي وتكليف الأعمى بنقط المصاحف على وجه الصواب ، والدافع له مكابر جاحد للضروريات ، ومن هذا سبيله فإنه لا يناظر ، وعلى هذا فإن النّظام لما ناظره مجبر وانتهى بهما الكلام إلى أن قال له المجبري : ما الدليل على قبح التكليف لما لا يطاق؟ سكت النظام وقال : إن الكلام إذا بلغ إلى هذا الحد وجب أن نضرب عنه رأسا.
فإذا لا كلام في ذلك ، وإنما الكلام في وجه قبحه.
لا كلام في تقبيح التكليف لما يطاق ، وإنما الكلام في وجه قبحه :
فعندنا ، أنه إنما يقبح لكونه تكليفا لما لا يطاق ، بدليل أنا متى عرفناه على هذه الصفة عرفنا قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعرفه على هذه الصفة لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما عرفنا. وأما قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فإنما قال ذلك تعريفا لهم بالعجز عن الإنباء لا أن ذلك تكليفا ، وعلى هذا لو كان تكليفا لكان تكليفا لما لا يعلم ، وذلك مما لا يجوزه القوم وإن أجازوا تكليف ما لا يطاق.
ومن العجب أن هذا المخذول كان يستدل بالسمع على المسائل ، وعلى هذه المسألة خاصة ، مع تجويزهم سائر القبائح من الكذب وإظهار المعجز على الكذابين وغير ذلك على الله تعالى ، مع أن كلام الله تعالى إنما يكون حجة إذا ثبت أنه لا يكذب ، فأما والكذب جائز عليه فكيف تقع الثقة بقوله ، وما الأمان له من أن هذا الذي يقع الاحتجاج به من الكذب الصراح ليس بالكذب؟.
ثم إن قاضي القضاة عارضه بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وإنما أورد هذه الآية على طريق المعارضة والاستئناس ، لا على طريق الاستدلال والاحتجاج ، لأنا قد ذكرنا أن كل مسألة تقف صحة السمع عليها ،