وبعد ، فكان يجب في الناظر ومن حقه أن يكون مجوزا أن يجوز في حالة النظر وقبل العلم انقطاع عقابهم ، وذلك يقتضي أن لا يخلص عقابهم عن كل روح وراحة ، وذلك لا يجوز.
ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال ، قلنا : لم يسبق منهم نظر فيتذكروه ، لأن المعلوم من حال كثير من أهل النار أنهم ما نظروا ولا استدلوا فكيف نتصور منهم تذكر.
وبعد فإنا إذا جعلنا ذلك موقوفا على اختيارهم ، جاز أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه قدر ما يكفر عقاب معاصيه ، فيستحق الخروج من النار ، وهذا محال.
وبعد ، فلو كانوا مكلفين بالنظر والاستدلال وبتحصيل المعرفة ، لكان لا بدّ من أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بالتكليف ولن يكون هكذا إلا وتقبل توبتهم إذا تابوا ، فكان يجب وقد علموا أنهم يتخلصون بالتوبة من النار أن لا يعدلوا عنها ساعة واحدة ، وأن يتوبوا ويتخلصوا من النار ، وهذا محال. فهذه جملة دالة على مثال ما يقوله أبو القاسم البلخي ابتداء.
تتمة الرد على اعتراض أبي القاسم البلخي
فأما ما أورده من الشبهة من أن ما يعلم ضرورة لا يجوز إلا أن يعلم ضرورة ، فكذلك ما يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا فغير مستقيم ، لأنه جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما ، فلا يقبل. على أن فيما نعلم اضطرارا ما يجوز أن يعلم استدلالا ، ألا ترى أن العلم بكون زيد في الدار ، كما يحصل مشاهدة يحصل بخبر منبئ صادق ففسد ما ظنه ، فأما إذا علم ضرورة ، إنما لم يجز أن يعلم استدلالا ، لا لأنه معلوم ضرورة ، بل لأنه معلوم فقط. ولهذا فإنه لو علم استدلالا مرة لا يمكنه أن يعلم استدلالا مرة ثانية ، لوجه معقول وهو ، أن النظر والاستدلال قط لا يجامع القطع والبتات ، لاحتياجه إلى التجويز والتمثيل. على أن العلم بالمشاهدات ، وغيره من الأمور التي قاس عليها ، من كمال العقل والنظر ، والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل ، فلهذا لم يجز في هذه الأمور أن تعلم استدلالا ، وهذا غير ثابت في العلوم المكتسبة ، ففارق أحدهما الآخر.