لا يحسن مع العلم ، فكان يجب أن يقبح من الواحد منا إدلاء الحبل إلى الفريق إذا غلب على ظنه أنه لا يتشبث به ، وأن يقبح منه تقديم الطعام إلى الجائع إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع به ولا يتناوله ، ومعلوم خلافه.
وبعد ، فلو كان العلم بالقبول شرطا في كون النعمة نعمة ، لوجب إذا قبل هذا الشرط أن تخرج النعمة عن كونها نعمة ، حتى لا يكون الواحد منا منعما على غيره وإن أوصل إليه ما ينتفع به ، بأن لا يعلم أنه هل يقبل أم لا ، وهذا يقتضي أن لا يحسن من الواحد منا تقديم الطعام إلى الجائع وإن بلغ في الجوع الغاية ، ولا إدلاء الحبل إلى الغريق ، بأن لا يكون عالما أنه هل يتناول ذلك الطعام أو يتشبث بذلك الحبل أو لا يتشبث ، ومعلوم خلافه.
وبعد ، فإن العلم تابع للمعلوم غير مؤثر فيه ، لو لا ذلك ، وإلا كان يجب إذ علم أحدنا القديم تعالى بصفاته ، أن يكون كون القديم تعالى مستندا إلى علمه ، حتى إذا زال زال ، وذلك محال. يبين ذلك ، أن العلم إنما يتعلق بالشيء على ما هو به ، وما هذا حاله لا يجوز إلا أن يكون مؤثرا.
فإن قيل : إنه تعالى إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فقد أضرّ به بالتكليف. وجوابنا أن الكافر إنما استضر بفعل نفسه حيث أساء الاختيار لنفسه ولم يختر الإيمان ، مع أنه كان يمكنه اختياره على الكفر.
فإن قيل : أليس لو لا التكليف لكان لا يستضر به الكافر؟ قلنا : إنه وإن كان كذلك ، إلا أن القديم تعالى لا يخرج عن أن يكون منعما عليه بتكليفه إياه ، مع أن غرضه تعريضه إلى درجة لا تنال إلا به ، وصار الحال فيه كالحال في من تفضل على غيره بدنانيره فضيعها ذلك الغير واغتم لمكانها ، فكما لا يقال : إن المعطي يخرج بذلك عن كونه منعما متفضلا عليه ، كذلك هاهنا. يبين ذلك ، أن المضيع للدنانير ليس هو المعطي فإنما ضيعها هو بنفسه ، كذلك هاهنا ليس هو الله تعالى ، بل الكافر هو المضر بنفسه حيث اختار الكفر حتى استوجب به العقوبة.
فإن قيل : إنه تعالى إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فإن تكليفه له والحال هذه يكون عبثا ، ونحن قبل أن نجيب عن ذلك نبين حقيقة العبث.