والقوم قد أبطلوا القول بالاختيار رأسا ، فلم يكن للكلام في ذلك معهم وجه ، وأيضا ، فإن اللطف إذا كنا لا نوجبه إلا لأنه زيادة في تمكين المكلف أو إزاحة علته ، والقوم يجوزون على الله تعالى تكليف ما لا يطاق ، لم يكن لمكالمتهم في هذه المسألة وجه.
الخلاف مع بشر بن المعتمر
فإذن لا يتحقق الخلاف معهم ، وإنما يقع الخلاف من بشر بن المعتمر ومن تابعه.
وهم قد ذهبوا إلى أن اللطف لا يجب على الله تعالى ، وجعلوا العلة في ذلك ، أن اللطف لو وجب على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من عصى الله تعالى ومن أطاعه ، تبيّنا أن ذلك اللطف لا يجب على الله تعالى.
فأما عندنا ، فإن الأمر بخلاف ما يقوله بشر وأصحابه ، إذ ليس يمنع أن يكون في المكلفين من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه ، حتى إن فعل به كل ما فعل لم يختر عنده واجبا ولا اجتنب قبيحا.
وإذ قد علمت هذا ، فاعلم أن شيوخنا المتقدمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف إطلاقا ، ولا وجه لذلك ، بل يجب أن يقسم الكلام فيه ويفصل ، فنقول :
إن اللطف إما أن يكون متقدما للتكليف ، أو مقارنا له ، أو متأخرا عنه ، ولا رابع.
فإن كان متقدما فلا شك في أنه لا يجب ، لأنه إذا كان لا يجب إلا لتضمنه إزاحة علة المكلف ، ولا تكليف هناك حتى يجب هذا اللطف لمكانه. وأيضا فإنه إذا جرى مجرى التمكين ، ومعلوم أن التمكين قبل التكليف لا يجب ، فكذلك اللطف.
وإذا كان مقارنا له فلا شبهة أيضا في أنه لا يجب ، لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب ، بل القديم تعالى متفضل به مبتدأ ، فلأن لا يجب ما هو تابع له أولى ، فصح أن مراد المشايخ بذلك الإطلاق ما ذكرناه.
ثم لا يفترق الحال بين ما إذا كان لطفا في الواجبات ، وبين ما إذا كان لطفا في